Wednesday, January 6, 2010

في ظلال شجرة مريم

عبدالرحمن مصطفى
تصوير- مجدي ابراهيم

موقع شجرة مريم بالمطرية، حيث مرت العذراء وصغيرها قد تغير ولم يعد له الطابع الريفى نفسه، لكنه على أرض الواقع لا يزال يفرض سطوته على السكان

وسط المساكن القديمة ناحية شارع المطراوى فى حى المطرية، يمر التوك توك سريعا برشاقة وخفة يحسد عليها دون أن يلتفت سائقه إلى اللافتة المعلقة «محكى بئر وشجرة مريم». يعلم السائق الشاب قدسية المكان وأنه يمر بعجلات مركبته الصغيرة فوق نفس الأرض التى خطت عليها السيدة العذراء، لكن كل هذا لا يدفعه لتجربة الدخول وزيارة شجرة مريم أو التعرف على تفاصيل المكان.
نهلة كانت إحدى هؤلاء الزوار، أتت للمكان بصحبة أبنائها: «هذه المرة الأولى التى أزور فيها المكان، وكنت أخشى أن تكون هناك إجراءات معقدة للدخول أو أن يكون هناك زحام يمنعنا من الزيارة، لكن الأمور اتضح أنها أبسط بكثير».
لم تشأ نهلة أن تذكر سبب زيارتها، فقط قالت إنها أتت للزيارة والتشفع ببركة العذراء، وقبل زيارتها بفترة وجيزة كانت فى زيارة أخرى لطاحونة البابا كيرولوس فى مصر القديمة. فى هذا المكان احتضنت شجرة الجميز العامرة الأوراق السيدة العذراء والسيد المسيح ورفيق رحلتهما يوسف النجار بعد أن فروا جميعا من بطش الحاكم الموالى للرومان، حين أراد قتل المسيح بعد نبوءة أخبرته بأنه خطر على ملكه.
يقول الكتاب المقدس: «وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه. فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانصرف إلى مصر». (متى2 :13ـ14).
هذه النصوص رسخت مكانة موقع الشجرة ومزارات العائلة المقدسة فى قلوب المصريين، أما الموقع اليوم فقد اختلف تماما عن بساطته الأولى، حيث يحاط بسور عالٍ للحماية وشباكين للتذاكر، وعلى الجدران صلبان وآية منحوتة «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون» (82 سورة المائدة).
كل هذه التطويرات لم تكن موجودة قبل عشر سنوات فقط، تروى سعدية شاش مفتشة الآثار فى الموقع بعض المفارقات وتقول: «أغلب الزوار من أفواج شركات السياحة لكن هناك زوارا من أماكن مختلفة سواء من المسيحيين أو من المسلمين الذين أتوا بحثا عن البركة أو مجرد الزيارة والتعرف على المكان».
تكمل السيدة سعدية الجولة بحماس، بدءا من البوابة مرورا بالبئر التى يرجح البعض أن العذراء قد غسلت ابنها بمياهها، وتسير بعدها فى طريق طولى تتوسطه الشجرة، وتوضح السيدة سعدية بعد سبع سنوات من العمل فى هذا المكان: «المكان هادئ وبسيط ويبعث على الراحة النفسية». ثم تشير إلى الشجرة المقدسة وقد تمت تغطيتها بأغطية بلاستيكية وتضيف: «حين نلاحظ وجود الغيوم فى السماء أو تقلب فى الطقس تتم تغطيتها حفاظا عليها».
داخل الموقع لا تنقطع الصلوات، جوار البوابة عسكرى فى زيه يصلى العصر قبل ساعات قليلة من إغلاق الموقع فى الخامسة، وبعض الزوار يتلون نصوصا مقدسة فى المكان المبارك.
لا تخفى السيدة سعدية بعض الشكاوى عن أن انخفاض مستوى الأرض عن مستوى الشارع فى الخارج يؤدى فى بعض الأحيان إلى دخول مياه الصرف الصحى إلى الموقع، وهو ما يضطر العاملين إلى التعامل معها سريعا وبشكل مباشر.. أما فى خارج الموقع فهناك عالم آخر ،حيث يتكرر اسم مريم على العديد من المواقع والأماكن، مدرسة شجرة مريم، وقاعة أفراح شجرة مريم، ومكتبة شجرة مريم...
وفى بداية الدخول للمنطقة تستقبلك كافتيريا مريم، هناك كان يجلس الحاج محمود ربيع (73 سنة) ــ على المعاش ــ الذى استقر فى حى المطرية منذ الطفولة ورأى نفس هذا الموقع قبل أن تبنى مساكن شجرة مريم فى الستينيات وقبل أن يتم تطويره قبل أكثر من عشر سنوات على يد رجلى الأعمال «منير غبور»، و«نجيب ساويرس» وما تبع ذلك من وجود كثيف لرجال الأمن.
يشير الحاج ربيع إلى السور العالى ويقول: «كل هذه المساحة قبل إنشاء المساكن كانت مشاتل تابعة للأوقاف، كنا نأتى هنا صغارا لاصطياد العصافير فى رحاب شجرة مريم، وإلى جوارها كانت هناك ساقية أزيلت الآن».
لم يكن هذا الموقع فقط الذى تغير، بل كانت منطقة المطرية أقرب إلى الروح الريفية، فحتى البيوت التقليدية على الضفة الأخرى من شارع المطراوى لم تكن موجودة بهذه الكثافة، حين كان الجالس أمام شجرة مريم يمكنه رؤية «المياه الحلوة» حسب تعبير الحاج محمود ربيع التى يقصد بها القنوات المتفرعة من ترعة الإسماعيلية.
فى داخل الموقع الأثرى الوضع يبدو أكثر تطورا وتعقيدا، حيث تتبدل الورديات بين مفتشى الآثار، السيدة هناء لطفى اسكندر مفتشة الآثار بالموقع تتفهم بعض انطباعات زوار المكان حين يرون الوجود الأمنى والأسوار العالية، وتقول : «بعض الزوار أحيانا لا يرغبون فى دفع التذاكر رغم أنها لا تتجاوز الجنيهين، وأضطر أحيانا إلى دفع قيمة التذكرة لبعض البسطاء.. لكن الغالبية تتفهم الوضع بعد الشرح».
تمر على السيدة هناء فى المكان جنسيات متعددة من جنسيات روسية ويونانية وحبشية وسودانية أتوا للتبرك والتشفع، تشير إلى الشجرة الأصلية حيث كتب عليها بعض الكلمات اللاتينية، شارحة : «حتى جنود الحملة الفرنسية حفروا أسماءهم هنا عرفانا بالجميل إلى العذراء بعد أن تشفعوا بها لإصابتهم بمرض جلدى استشرى بينهم، وهذه هى شجرة الجميز الأصلية التى احتمت بها العائلة المقدسة، أما الموجودة حاليا بجوارها فقد زرعت من فرع منها قبل مئات السنين وما زالت تؤتى ثمارها فى شهر أغسطس من كل عام».
لاحظت أيضا السيدة هناء بعد عشر سنوات من العمل فى المكان أن بعض السيدات اللاتى لم ينجبن يأتين هنا للزيارة والتبرك وكذلك من الدول العربية، ولاحظت أن نسبة كبيرة من الزوار من المسلمين خاصة من الأماكن القريبة.

حفائر الذاكرة
رحلة العائلة المقدسة لم تترك آثارا عميقة فى الأرض مثلما تركت آثارها فى الذاكرة، فالبئر التى يرجح أنها اغتسل فيها المسيح بيد أمه العذراء مريم ذكرت المصادر المسيحية أنها نبت حولها نبات البلسم الشافى الذى يستخدم زيته فى أغراض دينية، لذا سمى الشارع المجاور بشارع البلسم، وخلفه شارع آخر باسم المقعد لأنه الشارع الذى جلست فيه العائلة المقدسة، أما القصة الأشهر فهى قصة الشارع الذى لا يختمر فيه العجين.
تروى المصادر المسيحية أن السيدة مريم فى أثناء مرورها ناحية الشجرة مرت بأهل بيت وطلبت منهم خبزا فرفضوا، فظل هذا المكان لا يختمر فيه العجين ولا يصلح فيه الخبز. محى ــ مسئول الأمن التابع للمجلس الأعلى للآثار يروى تلك القصة ــ وبحكم أنه من سكان حى المطرية فقد طرح نفس الجدل الذى يتحدث عنه البعض حول ما إذا كانت قد أصابت هذا المكان لعنة ما، وهل توقف الخمير عن العمل هو فى يوم واحد فى العام أم طوال العام؟
إلى جوار شارع المطراوى شارع ضيق اسمه شارع أبوفايد، تتفرع منه حارة أضيق اسمها حارة عيد، شباب الحى لم تجذبهم قصة مرور العائلة المقدسة من هذا المكان، لكن الحاج أحمد حسن استقبل الاستفسار بابتسامة عريضة أثناء راحته فى صالون الحلاقة الذى يديره، وأشار إلى الحارة التى أمامه: «يقال إن فى هذا الموقع مرت العذراء من هنا ورفض الناس إطعامها فأصبح كل من يسكن هنا لا يستطيع الخبيز». يشير إلى الحارة المقابلة للمحل أمامه : «هذه الحارة قديما كانت تسكنها عائلة واحدة ولها بوابة، القدامى هم من كانوا يرددون هذه القصة، أما اليوم فلا أحد يتذكر أو يهتم».. ويضيف: «على فكرة.. هو يوم واحد فقط فى السنة الذى ينقطع فيه الخمير من بيوت المنطقة».
هذه القصص لم تنته من منطقة شجرة مريم فى حى المطرية، وما زالت الذاكرة تحملها دون تقصٍ، لأن الجميع يعلم أنها مرت من هنا مع وليدها المبارك، وهذا يبرر كل قصة وحكاية.
حول الموقع الأثرى مسجد قريب، وكنيسة كاثوليكية للعائلة المقدسة «شجرة مريم»، وكنيسة العذراء المعروفة بكنيسة شجرة مريم وهى كنيسة قبطية أرثوذكسية، كاهنها هو الأب القمص يوحنا فؤاد يوسف الذى بدا مشغولا مع شعب الكنيسة فى فترة الأعياد، كما أن بعض الزوار يتجهون للزيارة لمجرد الاستئناس بالمكان.
يقول القمص يوحنا: «كل مكان زارته العائلة المقدسة له مكانة وترابه مقدس، لكن ما يسىء إلى المكان هو عدم الوعى بأهمية النظافة حوله، وهناك من خدام الكنيسة من لديه الاستعداد لتحمل عبء النظافة، لكن لابد من التعاون، خاصة أن هذا يسىء إلى سمعة مصر أمام الزائر الأجنبى الذى جاء خصيصا لزيارة المكان».
مازال الأب يوحنا يحتفى بالتطوير الذى طرأ على المكان قبل عشر سنوات حين حضر المحافظ والبابا لافتتاحه، فقبل هذا التطوير كان المكان فى عهدة أناس بسطاء لم يحافظوا جيدا على المكان، وهو ما دفع البعض إلى أن تصبح هذه الشجرة قضيتهم كما يقول الأب يوحنا: «على سبيل المثال كانت هناك امرأة اسمها فيكتوريا من حى الزيتون المجاور وتولت مسئولية شجرة مريم ونظافتها، حتى اللحظات الأخيرة فى حياتها».
ليست السيدة فيكتوريا فقط هى التى يتذكرها أهالى المنطقة جيدا، بل يتداول الكثيرون قصة أحد سكان مساكن شجرة مريم الذى حاول قبل سنوات عديدة قطع الشجرة وإزاحتها من المكان ووضع يده عليه، فأصابه الشلل حتى مات.
هذه القصة يذكرها الأب بولس القس بنفس الكنيسة ويقول: «القصة نقلها إلينا إخواننا المسلمون الذين تابعوا الموقف وقتها أكثر منا».

1 comment:

  1. أنا مع مفتشة الموقع في يسار الصورة
    كنقطتين في بحر

    ReplyDelete