Thursday, October 29, 2009

الصور النمطية عن الأقاليم والمدن المصرية

الخميس 29 اكتوبر 2009
عبدالرحمن مصطفى

قبل أكثر من 3000 عام جلس أحد التلاميذ الصغار يدون ما أمره أستاذه أن يكتبه من تدريبات، وكان أحد هذه التدريبات مجموعة من العبارات التى تصور بؤس حياة الفلاح المصرى فى مقابل ميزات مهنة الكاتب، حين يحيطه الحرس وقت جمع الضريبة من الفلاحين الذين يتعرضون للضرب والمهانة.

تلك الصورة التى حاول أن يرسخها الأستاذ منذ آلاف السنين فى عقل تلميذه عن حياة أهل الريف لم تكن حقيقية تماما، حيث لم تكن كل حياة الفلاح بؤسا وشقاء، وتطورت تلك الصورة بعد آلاف السنين
وأصبحت أكثر عمقا حتى نجدها فى العصر العثمانى واضحة فى كتاب مثل «هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف» فى القرن السابع عشر (ليوسف الشربينى) الذى تعرض لنمط حياة أهل الريف بصورة لم تخل من السخرية والتعميمات القاسية وقصص وحكايات ترسخ صور مسيئة عن سذاجة الريفى وبدائيته وفقر حياته.

تطورت اليوم تلك الصور النمطية عن الأقاليم والمدن المصرية إلى أنماط مختلفة فأصبحت وسيلة للمدح فى أوقات ووسيلة ذم فى أوقات أخرى، فالحديث عن «كرم الشرقاوى»، أو «حرص الدمياطى»، أو «دهاء المنوفى»، أو «شجاعة الصعيدى» قد تتحول فى نفس الوقت إلى أدوات وصم وذم لأصحابها فيتحول الكرم إلى سذاجة والحرص إلى بخل، والدهاء إلى لؤم، والشجاعة إلى اندفاع.
وتطورت هذه الصور إلى عبارات ومأثورات شعبية مثل «المنوفى لا يلوفى»، أو « الإسكندرانية وشوش كالحة ومية مالحة»، مستندة فى بعض الأحيان إلى حوادث بعينها. فعلى سبيل المثال ارتبط تعبير «بلديات اللى اشتروا الترماى» بحادثة نصب بيع فيها الترماى القديم لأحد الوافدين إلى القاهرة من قبلى وتم تعميم هذه الحادثة على القادمين من الصعيد. هناك أيضا قصة شائعة تروى استضافة بعض أبناء محافظة الشرقية لركاب قطار معطل وتم تعميم الموقف ليصف أهل الشرقية بأنهم «اللى عزموا القطر».

تلك المأثورات الشعبية على الرغم من أنها تبدو ظاهريا مستندة إلى أحداث واقعية فإن الكثير من القصص الأخرى التى ترسخ صورة عن إقليم أو بلد معين ليس لها أصل حقيقى. فهل يجيب الفلكلور المصرى على أصول هذه الصورة المرسومة عن الأقاليم المصرية المختلفة؟
يقول الدكتور عبدالحميد حواس ــ أستاذ الفلكلور الشعبى بأكاديمية الفنون ــ: «كثير من الناس يحمل أوهاما عن الفلكلور وكأن داخله إجابات عن كل الأسئلة، لكن حقيقة الأمر أن المأثورات الشعبية المتداولة عن بعض المحافظات ما هى إلا عبارات تهدف إلى ترسيخ وتبرير فكرة ما عن إقليم معين».
يرى الدكتور حواس أن أصول فكرة التنميط فى الثقافة الشعبية عن أقاليم بعينها هى جزء طبيعى من الثقافات الشعبية ولها وظيفتها، ويقول: «كل سكان إقليم أو عصبية يضعون صورا نمطية عن الطرف الآخر لأن ذلك يؤدى وظيفة بالنسبة إليهم، فرصد الاختلافات لدى الآخر هو وسيلة للتعرف على الذات، إلى جانب أنه يعطى نوعا من الرابط الداخلى بينهم، ومن ناحية أخرى فهذا التنميط يعطى سهولة فى التعرف على الطابع العام للآخر فى التعاملات».
ويوضح الدكتور حواس أنه على سبيل المثال حين يستخدم أهل القرى حول مدينة دمنهور عبارة «ميت نورى ولا دمنهورى» تصبح العبارة كأنها تحذير يساعد القروى على تفهم ما هو مقبل عليه حين يتجه إلى دمنهور، وحين يتعامل مع تجارها فى الأسواق.

وقد حاول بعض أبناء الأقاليم والمدن المصرية المختلفة أن يرسموا صورا عن أنفسهم وأن يفسروا الصور النمطية التى أشيعت عنهم، الشاعر محمود بيرم التونسى كتب أبياتا فى القرن الماضى يعرض فيها نفسية السكندرى وما يشاع عنه من صور، فقال:
الإسكندرانى إذا صافح
يغلط ساعات ويروح ناطح
وارثها عن جده الفاتح
فحل الملوك اللى حماها

الإسكندرانى إذا اتحذلق
جلنف لكن له مبدأ

يغواه لحد ما يتزحلق
فى نايبة عمره ما ينساها

يحاول بيرم التونسى من خلال هذه الأبيات تبرير إحساس السكندرى بالزهو وحماسه الشديد وما يحمله من تحذلق أبناء المدينة فى مواجهة أبناء الأقاليم والمدن الأخرى، رابطا تلك الأحاسيس بخصوصية الإسكندرية وارتباط المواطن العادى بالإسكندر الأكبر.
تلك الصورة التى حاول بيرم التونسى مداعبتها لم تكن واحدة على جميع أبناء السواحل، ففى مدينة دمياط ذات التاريخ العريق شاعت صورة عن بخل سكانها وهو ما تعرض له الكاتب الصحفى عباس الطرابيلى ــ أحد أبناء المدينة ــ فى محاولة لتفسير تلك الصورة موضحا أن الدمياطى بطبعه رجل عملى يقدر قيمة الوقت بحكم اشتغال كثير من أبناء المدينة فى الصناعة، لذا يدرك الدمياطى قيمة الثروة التى بين يديه، وهو متصالح مع هذا على عكس بعض الأقاليم الأخرى التى تدعى الكرم وتتكلف دون مصداقية، وهكذا أكد الطرابيلى أن الروح العملية الجادة لدى الدمياطى لم يتفهمها كثيرون ممن لا يقدرون قيمة الوقت أو المال.
تلك المحاولات لم يوازِها عمل بحثى شامل يقدم تفسيرات لأصل تلك الصور النمطية ومحاولة تفسيرها، لكن تلك الصور يتم التعرض إليها فى سياق دراسات أخرى.
ويوضح الدكتور شعبان جاب الله ــ أستاذ علم النفس الاجتماعى بكلية الآداب جامعة القاهرة ــ أن هناك صورا نمطية ترسم عن مجتمعات بأكملها مثل أن يقال عن الشخصية المصرية أنها شخصية «فهلوية»، لكن هناك أيضا صورا نمطية stereotypes عن ثقافات فرعية، سواء كانت على أساس مهنى يرتبط بثقافة سائدة فى مهنة ما أو على أساس جغرافى.
ويضيف: «التنميط هو تعميمات يصدرها الناس عن شيوع أنماط سلوكية داخل ثقافة معينة تنتج لدى الناس معتقدات وتصورات عن سمات والصفات تلك الثقافة».
يوضح الدكتور شعبان أن وقوع القاهرة بعيدا عن تلك الصور النمطية الشهيرة سببه هو أنها مدينة ليست ذات مجتمع متجانس، بل خليط سكانى يجب البحث داخله عن القاهريين الذين عاشوا وولدوا داخلها وتشبعوا بسمات أهل المدينة بحيث يكون الاختلاف واضحا بينهم وبين الشخصيات الريفية أو الساحلية أو غيرها.
ويلخص أسباب ظهور التنميط داخل المجتمعات فى قوله : «يظهر التنميط بسبب وجود ميزات وخصائص كثيرة التكرار بين أفراد مجتمع بعينه، فينتج ذلك لدينا ملمحا عن الصفات الأكثر شيوعا داخل الثقافات، لكن البعض يبنى على ذلك تعميمات فى أغلبها خاطئة».

محاولات بعض الكتاب التعرض للأنماط الأكثر شيوعا فى أقاليم محددة لا تمر دائما بسلام، ففى العام الماضى جرت مناوشات بين الكاتبين نبيل شرف الدين وحمدى رزق بعد أن كتب الأول مقالا فى جريدة «المصرى اليوم» تحت عنوان «المنايفة» جمع فيه بعض الصور التى ارتبطت بأبناء المنوفية وارتباط كثير منهم بالجهاز الإدارى والسلطة فى الدولة، وهو ما دفع الصحفى حمدى رزق إلى التعرض للمقال ( بالجريدة نفسها) والدفاع عن أبناء محافظته واستخدام إشارات إلى الأصل الصعيدى للكاتب نبيل شرف الدين.
لكن تلك المناوشات الخفيفة تجاوزت فى بعض الأحيان هذا الحد إلى عناوين أكثر مباشرة، مثل انتقاد بعض العناوين الصحفية لإجراءات تمت فى العام 2002 من محافظ القاهرة أشيع وقتها أنها استهدفت ذوى الأصل الصعيدى لمنع الهجرة إلى القاهرة، وكان عنوان صحيفة الميدان فى ذلك الوقت هو «هل يأمر محافظ القاهرة بترحيل شيخ الأزهر والبابا شنودة؟» فى إشارة إلى جذورهما الصعيدية.
تلك المواقف الغاضبة تربط بين الصورة النمطية والإحساس بالظلم، حتى إنها قد تصيب عملا كوميديا مثل فيلم «أبو العربى» الذى تم وقفه فى مدينة بورسعيد وقت عرضه بسبب استخدامه شخصية أبو العربى التى تمثل صورة نمطية عن السواحلى البورسعيدى، ولم تتوقف المواقف عند هذا الحد حيث شهدت الأعوام الماضية دعوى قضائية من نوع خاص تقدم بها المحامى نبيه الوحش احتجاجا على عدم تمثيل «الصعايدة» داخل حكومة الدكتور أحمد نظيف..!

فى تلك اللحظات القلقة أحيانا ما تتدخل السلطة إذا ما شعرت بأن الصور النمطية الرائجة عن ثقافات بعينها فى المجتمع بدأت تهدد السلم الاجتماعى، ويروى المونولوجست حمادة سلطان عن ذلك أنه فى منتصف السبعينيات كان قد تلقى توجيهات من الرئاسة فى فترة حكم الرئيس السادات بتهدئة حدة النكات التى يطلقها على الصعايدة مع ظهور حالات عنف واشتباكات بين الصعايدة والفلاحين بسبب هذه النكات، فاستغنى حمادة سلطان عن تعبير «مرة واحد صعيدى» واستخدم تعبير «واحد بلدياتنا». وإن كان ذلك لم يلغ استخدام النكات كوسيلة لترسيخ الصور النمطية عن الأقاليم المصرية.

أسرى في فيلاتهم ..

لا بيع ولا شراء

كتب ـ عبد الرحمن مصطفى
في شرفته المطلة على تقاطع شارعي مصر والسودان والدويدار في منطقة حدائق القبة القاهرية يستمتع غزالي الصادق بمطالعة المارة من شرفته وتأمل التغييرات التي طرأت على الحي الذي عاش فيه لأكثر من 59 عاما، لا يفسد متعته سوى تذكر قيمة الفيلا التي يقيم بها الآن التي تجاوز الأربعة عشر مليون جنيه لا يستطيع الحصول على جنيه واحد منها رغم موافقة ورثة الفيلا على البيع.
يعمل غزالي الصادق مديرا عاما في تموين القاهرة ويقترب من سن المعاش، ورغم تواجده في فيلا عريقة في منطقة حدائق القبة إلا أنه يعيش مع عائلته في مستوى مادي متوسط.
يقول غزالي : "وجودي في هذه الفيلا ليس من قبيل الوفاء أو التمسك بمبنى قديم لكن الفيلا خضعت مثل غيرها مبكرا لأمر رئيس مجلس الوزراء ونائب الحاكم العسكري العام الذي كان يحظر هدم أو التصريح بهدم القصور والفيلات، والآن هي مصنفة على أنها ذات طابع معماري متميز مما أعاق عملية البيع ."
الأمر العسكري الذي أشار إليه غزالي كانت المحكمة الدستورية العليا قد قضت بعدم دستوريته، وهو ما أعطى الحق لأصحاب بعض الفيلات في إخراج تصريحات هدم وبيع لفيلاتهم . لكن أصحاب الفيلات القديمة الأخرى ما زالوا عاجزين عن استصدار مثل هذا القرار، ويتساءل غزالي عن شروط تقييم الفيلات وإدراجها على أنها ذات طابع أثري مميز قائلا: " يجب أن تراجع الفيلات الخاضعة لهذا التصنيف، فعلى أي أساس يتم التقييم؟".
يرجع تأسيس هذه الفيلا إلى العام 1926 على يد اللواء أحمد عبدالرحيم حجازي، لكن الزائر الآن قد يظن للوهلة الأولى أنها بيت تقليدي يتكون من طابقين. يسكنها الآن حفيدتا مؤسس الفيلا وتقيم الأسرتين كحراس على أملاكهم دون القدرة على الفكاك من أسر المكان.
في بداية القرن الماضي تأسست حدائق القبة جوار قصر القبة بعدد قليل من الفيلات، وظل الحي محافظا على طابعه في سكن النخبة حتى انتهت فكرة بناء الفيلات في الحي إلى الأبد ، وبدأت الفيلات تتساقط واحدة تلو الأخرى وأقيمت مكانها أبراج حديثة وهو ما زال يحدث حتى الآن.
بعض الفيلات القديمة الآن هجرها أصحابها وتحولت إلى بيوت أشباح مهجورة، بينما ظل بعض الورثة في فيلات أخرى.. وهناك أبدى كثير منهم الحرج في الحديث عن أسباب تمسكه بالبقاء في تلك الفيلات نظرا لأن بعضهم لديه مشكلات مع بقية الورثة والبعض الآخر يتحفظ على الحديث عن مستقبل الفيلا وطموحه في بيعها ومدى إمكانيته حصوله على تصريح هدم.
ما زالت بعض قصور وفيلات حدائق القبة تشير إلى حقبة قديمة حيث سكنها اللواء محمد نجيب والسياسي البارز إبراهيم شكري الذي تحول قصره إلى مؤسسة خيرية بعد وفاته العام الماضي، و في نفس الحي ما زال هناك قصر الفنان نجيب الريحاني الذي تحول إلى قصر ثقافة، وقصر السياسي أحمد ماهر الذي تحول إلى مدرسة. لكن السمة العامة المسيطرة اليوم هي أن الفيلات أصبحت على وشك الانقراض، وأصبحت غريبة على الطابع العام للحي.
يرى الدكتور عصام الدين محروس أستاذ الهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة أسيوط أن منع هدم الفيلات ذات الطابع المعماري المتميز جاء متأخرا بعد أن تغيرت معالم المنطقة تماما، وأصبحت مزيجا من غابات العمارات العملاقة والمساكن الشعبية. ورغم انه واحد الذين تملكوا منذ سنوات فيلا عريقة في منطقة حدائق القبة إلا أنه يقول: "يجب إعادة النظر في جدوى بقاء بعض الفيلات القديمة والمهجورة بواسطة لجنة من أساتذة العمارة والآثار وتحديد قيمتها المعمارية، وتعويض أصحابها في حالة تضررهم.. فليس ذنب المالك أنه امتلك منزلا جميلا ".
وحسب رؤيته المعمارية يرى الدكتور عصام أن منطقة حدائق القبة لا يمكن مقارنتها بمناطق مثل الكوربة في مصر الجديدة أو منطقة مثل جاردن سيتي التي يطغى عليها طابع واحد، مضيفا : "رغم إقامتي بين أسيوط والقاهرة إلا إنه يمكنني القول بأن منطقة حدائق القبة لم تعد مناسبة أبدا لفكرة الفيلا، فمن خلال ما لمسته في السنوات السابقة فقد أصبحت العمارات العملاقة كاشفة لتفاصيل الفيلات، و أوجدت المناطق الخلفية الشعبية تناقضا بحيث لم تعد الفيلا سكنا عمليا في هذا الحي الذي اعتمد في بدايته على سكن الفيلات".

Thursday, October 22, 2009

الحنين إلى المدرسة في الزمن الصعب

أجواء الخوف من أنفلونزا الخنازير داخل المدارس، وانتشار الدروس الخصوصية في مراحل التعليم المختلفة، لم تمنع البعض من أن يرتمي في أحضان مدرسة المتفوقين الثانوية بعين شمس، وما زال خريجوها تحت تأثير الحنين إليها.. زيارة إلى مجتمع المتفوقين

كتب ـ عبدالرحمن مصطفى

أمام مدرسة المتفوقين الثانوية بمنطقة عين شمس ما زالت هناك لافتة قماشية تعلن عن استضافة مركز تعليمي بالمنطقة لدورات تأهيل الدخول لاختبارات مدرسة المتفوقين وأعلنت اللافتة المتهرئة عن انفراد المركز بما اسماه كتاب "اختبارات المتفوقين". بعض اتجهوا بالفعل إلى هذا المركز في يوليو الماضي فيما تعفف طلاب آخرون عن ذلك واعتمدوا على أنفسهم. محمد محمود طه (15 سنة) كان أحد من تقدموا هذا العام للالتحاق بالمدرسة وتم قبوله في الصف الأول الثانوي، لم تنجح المخاوف السائدة حول انتشار وباء أنفلونزا الخنازير بين المدارس في منعه من التمسك بفكرة الالتحاق بمدرسة المتفوقين الثانوية حيث المبيت والدراسة داخل أسوار المدرسة، وحسبما أوضح فقد كان هدفه البحث عن تعليم متميز وظروف أفضل للدراسة. سمع من زميله في مدرسة شبرا الإعدادية عن المدرسة وطابعها الخاص فقرر التقدم لامتحاناتها التي عقدت قبل بدء الدراسة، الآن هو أحد طلبة المدرسة.
"جئت هنا بحثا عن شرح أفضل من الأساتذة، وأجواء تتيح لي التفرغ الكامل للدراسة، وأردت أن أختبر قدرتي على الاعتماد على نفسي تماما بعيدا عن المنزل". تلك الأسباب الموجزة هي التي دفعت محمود إلى محاولة إقناع أسرته بقبول الفكرة، و الآن أمامه وقت طويل حتى يحكم على صواب اختياره. كما أن عليه أن يثبت تفوقه هذا العام أمام إدارة المدرسة بأن يحصل على تقدير يتجاوز 80% حتى يستمر ضمن طلابها.
حسب تقديرات إدارة المدرسة يتقدم إلى اختبارات الالتحاق بالمدرسة حوالي 1500 طالب يؤدون اختبارات تحريرية في الذكاء والمهارات الخاصة، ويتم اختيار 96 طالب هم الأعلى تقديرا للالتحاق بالصف الأول الثانوي، لكن في هذا العام الدراسي كانت الإدارة تراهن على أن حالة الهلع التي أصابت بعض أولياء الأمور من ذهاب أبنائهم إلى المدارس قد تمتد إلى مدرسة المتفوقين، خاصة وأنها تعتمد على مبيت الطالب والتغذية داخل المدرسة، فاقترحت الإدارة تخيير الطلاب بين المبيت الداخلي أو الإقامة في المنزل على عكس كل سنة دراسية وتوزيع الأماكن بين الطلاب الأبعد سكنا، بحيث يتوافر لكل طالب غرفة خاصة، إلا أن المفاجأة أن أولياء الأمور لم يتأثروا بالمخاوف السائدة حول انتشار وباء الأنفلونزا، وتمسكوا بحق أبنائهم في المبيت الداخلي. وأبدوا حرصا على إدماجهم في نمط حياة جديد.

"التعليم المتميز وتفرغ المدرسين للطلبة هو ما يدفع الطلبة إلى الارتباط بالمدرسة، حتى بعد تخرجهم". هكذا يرى الأستاذ محمد حامد مدير مدرسة المتفوقين أهم أسباب الارتباط بالمدرسة، ويوضح أنه منذ عمله في المدرسة في عام 95 لم يجد عاما دراسيا في خصوصية هذا العام، فالصف الثالث الثانوي به طالبان فقط محولان من الدول العربية لأن هذه الدفعة فارغة بسبب إضافة السنة السادسة الابتدائية منذ ست سنوات، ومع انتشار المخاوف من وباء أنفلونزا الخنازير أصبح كل فصل دراسي يضم 19 طالبا على عكس السنوات السابقة حين كان يصل إلى 24 طالبا.
يضيف : "كل هذا أعطى ميزة أكبر للطالب، خاصة أن نظام المدرسة يعطي مساحة للدراسة المسائية مع المدرسين خارج وقت الدراسة الصباحي." كل هذه التفاصيل التي تركز على التعلم تعمق الصلة بين الطالب والأستاذ حين يصبح بديلا عن الأسرة، وهو ما يعيد بعضهم إلى المدرسة بعد التخرج. فأحيانا ما يمر على مكتب الأستاذ محمد حامد طالب من خريجي المدرسة لمجرد إلقاء تحية صباحية على أستاذه السابق أو استنشاق هواء المدرسة الذي افتقده في حياته الجامعية الجديدة.
من أهم الأدوار في حياة الطالب داخل المدرسة هو دور المشرفين الذي يعززون صلته بالمكان ويعمقون ولاءه، وهم أخصائيون اجتماعيون يتبادلون التواجد طوال اليوم في ثلاث نوبات للرقابة على الطلبة. وداخل المباني التي يبدو عليها القدم والتصميم ذو الطابع العسكري يتوافر مشرف لكل عنبر، وفي داخل أحد هذه العنابر يقيم الدكتور رضا محمد مع الطلبة في غرفة مجاورة لهم، يتابعهم في غرف نومهم، ويدرس مدى تآلفهم، ويعطي الإذن بالخروج والدخول، ويقول : "المشاكل التي تواجه المشرف غالبا تتركز في الفترة الأولى حين يتم نزع الطالب من الاعتمادية على والديه وأسرته والاعتماد على نفسه والانصهار وسط زملائه ونظام المدرسة".
بدأ الدكتور رضا عمله في الإشراف داخل المدرسة من العام 92 وأثر تواجده بين المراهقين على حياته الشخصية، فاختار أن تكون موضوعات الماجستير والدكتوراه التي أجراها حول حياة المراهقين، ويرى أن تدخلات أولياء الأمور أحيانا ما تفسد عمله لأنها تلغى الهدف من اعتماد الطالب على نفسه ويوضح: "نظام المدرسة كفيل بإيجاد الألفة بين الطلاب فهم يفطرون سويا ، ويخدم كل طالب نفسه ويتعاون مع زملائه في الدراسة والسكن، و نحاول التغلب صعوبات العام الأول بالتوفيق بين الطلاب أثناء تسكينهم في الغرف، ورغم أن المدرسة تقدم خدمة التعليم المسائي حسب احتياجات الطلبة إلا أن بعض أولياء الأمور يحاول ربط الطالب بالدروس الخصوصية في فترة الأجازة وهو ما تحاول المدرسة الوقوف ضده تماما ".
منذ عام 92 حتى الآن تطورت مشاكل المراهقين وأصبحت الرقابة على أجهزة المحمول تطورا جديدا على عمل مشرف الغرف إلى جانب دوره التقليدي في تشجيع الملتزم وتقييم الطلاب وملاحظة سلوكياتهم وكتابة تقارير عنها.

مجتمع المدرسة

هذه الأجواء القريبة من الأجواء العسكرية فيما يبدو أنها عززت حس الولاء لدى بعض الخريجين، المهندس أسامة جمال 24 سنة، والطبيب الشاب أحمد عوض 23 سنة كلاهما من خريجي المدرسة ورغم مرور سنوات طويلة إلا أنه ما زالت تجمعهما الذكريات الطيبة بالمدرسة. وهو ما ظهر واضحا في لقائهما مع مشرفهما الدكتور رضا.
يعمل أسامة جمال مهندسا في شركة إنشاءات بينما ينهى زميلة أحمد عوض سنة الامتياز كطبيب بشري.
يقول أسامة "ما زالت أعتبر حتى اليوم أن دخول مدرسة المتفوقين هو طفرة في حياتي، وتغيير شامل في نظام حياتي، يكفي إحساسي بالفخر حين أتحدث مع زملائي عن أني من خريجي مدرسة المتفوقين وكيف اشرح تاريخها لمن لا يعرفه". لم يكن قرب سكن أسامة من المدرسة هو السبب الوحيد في الالتحاق بها قبل تسع سنوات بقدر ما كان قرار مجموعة أصدقاء كان واحدا منهم اختاروا الدخول في تجربة مدرسة المتفوقين.

لم يتذكر أسامة من سلبيات المدرسة سوى "رهبة بعض المشرفين في قلوب الطلبة" وان كان قد ذكر انه يتفهم هذا الآن، أما زميله الطبيب الشاب أحمد عوض قد جمعتهما زمالة منذ أيام الدراسة، ومناسبات أخرى أثناء زيارتهم إلى المدرسة خاصة أنهما في سكن مجاور للمدرسة، وكانت لقاءاتهما مع خريجين المدرسة في مناسبات مثل رمضان، أو في رحلات محدودة العدد سببا في التفكير في إمكانية إيجاد كيان يجمع هؤلاء الخريجين ويحافظ على علاقاتهم وصداقاتهم. ولأن أغلب خريجي المدرسة يلتحقون بكليات الصيدلة والطب والهندسة لأنها لا تحوي فصولا أدبية، فكانت مهمة الصديقان في تنفيذ هذا الهدف .

ومع البدء في استخدام شبكة فيسبوك الاجتماعية على نطاق واسع، بدأ خريجو المدرسة من أمثال أسامة جمال وأحمد عوض في البحث عن زملائهما من خلال فيسبوك، خاصة أن هذا هو الهدف الرئيسي من الموقع، وهناك عدد لا بأس به من مجموعات فيسبوك تضم خريجي المدرسة وطلبتها الحاليين، أحدهم من دفعة العام 2007 جمع صور الذكريات وأضاف إليها موسيقى ووضعها كلقطات فيديو اجتذبت عشرات التعليقات من أبناء دفعته، وفي مجموعة أخرى أحد طلبة الإعدادي يسال عن كتاب الأسئلة الخاص بالتقدم للمدرسة، وآخرون يعرفون أنفسهم على أمل إعادة العلاقات مع زملائهم وتوطيدها. كل تلك الأمور كانت تجري أمام أسامة وزميله أحمد عوض فاختارا أن يتجها إلى أبعد من إنشاء مجموعة على الفيسبوك إلى تأسيس جمعية للخريجين.
يقول أحمد عوض : "ما زلت حتى الآن افتقد المناقشات الجميلة التي كنا نديرها في دفعتنا حول قراءاتنا، وآراءنا فيما يحدث حولنا.. وفي العام 2008 قرأت إعلانا يدعو أبناء دفعة عام 58 إلى حفل في فندق كبير بمناسبة اليوبيل الذهبي، فألهمتنا هذه الخطوة كي نعمل على تأسيس جمعية اصدقاء وخريجي مدرسه المتفوقين الثانويه التي ما زالت تحت الاشهار ".

تاريخ تجربة

يعود تأسيس مدرسة المتفوقين إلى العام الدراسي 54/55 حين كانت عبارة عن فصول ملحقة بمدرسة المعادي الثانوية، أحد أبناء الدفعة التالية لهذه الدفعة هو الدكتور أحمد فرحات الأستاذ بمعهد التخطيط القومي يقول : "كانت المدرسة ترسل الخطابات إلى الخمسة الأوائل على مستوى المحافظات كي يلتحقوا بالمدرسة، فكنا وقتها نمثل أطيافا مختلفة من المجتمع بكل فئاته".
الدكتور أحمد فرحات هو نفسه الذي بادر مع أحد زملائه القدامى بالاحتفال باليوبيل الذهبي لتخرج هذه الدفعة في العام الماضي داخل أحد الفنادق الكبرى. ويرى أن المدرسة إلى حد ما نجحت في إيجاد نخبة منهم الوزير الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي ومحافظ الفيوم الحالي وعدد من العلماء والأكاديميين في مجالات الطب والهندسة وغيرها، إلا أنه يعيب على المدرسة أنها لم توجد ما يحافظ على التواصل بين خريجيها. ورغم أن الدفعات الأولى عاشت حفاوة خاصة وصلت إلى حد زيارة كمال الدين حسين وزير التعليم وعضو مجلس قيادة الثورة إلى المدرسة في زيارات خاصة لتقييم أدائهم كما يذكر الدكتور فرحات. إلا أن الحفاوة الأكبر كانت في انتقال المدرسة إلى مكانها الحالي في منطقة عين شمس في العام الدراسي 60/61 . الدكتور عادل بلال أستاذ متفرغ بقسم الأشعة بطب القصر العيني كان ضمن أول دفعة تلتحق بالمدرسة في هذا العام. وما زال حتى اليوم مخلصا للمكان رغم ما يصفه بعدم حدوث تطوير على المدرسة منذ أن أنشئت.

حاول الدكتور بلال إنشاء رابطة لخريجي المدرسة في السبعينات لكن التجربة لم تستمر، أما اليوم فيرى المدرسة بعيون أخرى يقول "الأجواء الحميمة والتلاصق في السكن يوجد رابطة ومجتمع خاص بالمدرسة، يستطيع هضم الفروق الثقافية والاختلافات بين المحافظات، ومع ذلك كانت هناك عوامل تميز نستطيع أن نلمسها بين أبناء الريف والمدينة أو مدن القناة والصعيد، كانت طبيعة المدرسة تدمج الجميع في هدف واحد".
كانت المدرسة في ذلك العام ما زالت تختار الأوائل من المحافظات، على عكس ما يحدث اليوم في اختبار المتفوقين. ويصف الدكتور بلال التجربة بأنها كانت ذات طابع سوفيتي (!) يعتمد على فكرة إعداد النخب في طابع ملتزم وعسكري و كانت المنح الدراسية توجه إلى الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة.

محاولات تقييم المدرسة لم تكن حصرا فقط على الخريجين القدامى بل حاولت بعض الدراسات القليلة تناول جدوى المدرسة وتقييم التجربة، وفي العام 90 ذكرت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية بعض الجوانب السلبية المتعلقة بالتجربة، منها أن حدة التنافس بين المتفوقين قد تؤدي إلى مشاكل نفسية نتيجة ضغط المنافسة، وأن قدرة طلاب المدرسة على الحفظ والاستدعاء قد تعبر عن تفوق ظاهري، كما أن البعد عن الأهل في النظام الداخلي قد يدفع إلى ضعف الصلات مع الأسرة وتعزيز حس التعالي عليهم، أما النقطة الأهم فكانت أن عزل المتفوقين في مكان واحد يؤدي إلى حرمانهم من خبرات حياتية ضرورية.

تلك الآراء كانت قد أعيد طرحها في العام 2007 حول جدوى تجربة مدرسة المتفوقين حين أعلن السيد وزير التربية والتعليم عن اقتراح تعميم التجربة في المحافظات، خاصة حين انتقد بعض الخبراء الفكرة مشيرين إلى أن بعض خريجين المدرسة تحولوا إلى طلبة عاديين في كلياتهم. وهو ما ترد عليه إدارة المدرسة الآن بأن هدفها هو "الحفاظ على التفوق، لأن المتقدمين إليهم هم من المتفوقين وليسوا من الأوائل".
تلك الانتقادات لم تكسر رابطة بعض الخريجين بالمدرسة وولاءهم إليها، كما لم تحبط الطلاب الجدد الذين بحثوا عن تجربة خاصة توفر لهم أجواء الدراسة بعيدا عن زحام المواصلات وتضييع الأوقات والأجواء العامة التي دور المدرسة خوفا من الأوبئة أو لتنامي الدروس الخصوصية
.

PDF

Thursday, October 15, 2009

الحياة في ظل الهرم

قد يبدو سؤالا ساذجا حين تسأل أحد زوار الأهرامات إن كان هذا البناء الحجرى العملاق يمثل لديه أى مكانة أو خصوصية، من وجهة نظر محمد رمضان ورفاقه فإن وجودهم فى منطقة الأهرامات الأثرية بالجيزة كان مجرد «خروجة»، حيث وجدوا فى منطقة الأهرامات طابعا مميزا ونزهة رخيصة لا تتجاوز قيمة تذكرتها جنيهين، جميعهم من طلاب الفرقة الأولى فى جامعة القاهرة ومغتربون من محافظة الدقهلية. يقول محمد: «لم أزر منطقة الأهرامات سوى مرتين فى أثناء الطفولة وهذه هى الزيارة الثانية مع أصدقائى منذ مجيئى القاهرة».

الرحلة لم تكن طويلة من محطة مترو أنفاق الجيزة إلى الأهرامات، فسائق الميكروباص يعرف أقصر الطرق إلى هدفه، أما الثلاثة جنيهات قيمة الأجرة فكانت مناسبة لنزهة رخيصة. أما الانطباع الأسوأ فكان فى رد فعلهم على أسئلة أخرى من نوعية ماذا يمثل الهرم لديهم؟ أو هل يجدون فى الهرم مصدر جاذبية أو طاقة؟ علامات الاستغراب والدهشة كانت كافية لتفهم أن الهرم لا يمثل أبعد من مكان مناسب للنزهة. سيد ــ أحد أفراد المجموعة ــ كان قد أبدى قبلها إعجابه بمعالم أخرى متواضعة مثل «كوبرى قصر النيل أو حديقة الأورمان» لم يخف فرحه بمشهد السائحين واستهجانه قلة عدد الزوار المصريين.
«فى الزيارة الأولى لمنطقة الأهرامات وقعت تحت تأثير المفاجأة حين شاهدت حجم الهرم المذهل على عكس المتوقع، وهو ما جذبنى إلى إقناع المجموعة لتكرار الزيارة».
هكذا يصف انبهاره بحجم البنيان، لكن الأمر لم يتعد هذا الحد معبرا عن وجهة نظر شريحة من الزوار لا تمثل لديهم الأهرامات أكثر من مكان مبهر، وقيمة كبيرة لمصر. لكنهم بمجرد أن يولوا ظهورهم لمنطقة نزلة السمان المجاورة لبوابة أبى الهول يصبح خلفهم عالم آخر تتخذ فيه الأهرامات مكانة أكبر من مجرد مكان للتنزه. فمنذ بداية الشارع المؤدى إلى منطقة الآثار يحاول بعضهم اقتناص أصحاب السيارات الفخمة وجذبهم إلى بازارات بعينها وخدمات أوسع. فالأغلبية هنا ارتبطت أرزاقها بتلك الأهرامات العملاقة وليسوا مجرد أصحاب متاجر أو عمال فى المنطقة، بل أصحاب مكان ورثوا فيه علاقتهم مع الأهرامات والسياحة عن أبائهم.

على العمدة أحد هؤلاء.. يدير متجرا لبيع العطور وبازارا لبيع التحف المصرية، ومنذ الصغر وهو محتفظ بعادته فى إلقاء نظرة تحية صباحية على الأهرامات لأنها «سبب رزقه» حسب وجهة نظره، حتى إن لم يمر عليه زبائن من نوعية محمد رمضان وأصدقائه الزوار.

كان سؤاله عم يمثل هذا البناء الحجرى بالنسبة إليه سؤالا غير واقعيا، إذ كان أكثر اهتماما بتفاصيل عمله اليومى، يستخدم العبارات الانجليزية خلال حديثه كدليل على توحده مع مهنته التى يتحدث فيها بالإنجليزية طوال اليوم مع السائحين، لكنه كان على صلة بآخرين يرون أن لديهم علما كافيا بعالم الأهرامات وما حولها من طاقة. وما إن تحول الحديث إلى مصطلح طاقة الهرم وعمليات التأمل التى يسعى إليها الزوار خصيصا إيمانا بوجودها حتى انتقل على العمدة إلى مدخل متجره مشيرا إلى قصاصات صحف ذات حجم كبير تزيَّن الجدران وتتناول شخصية من أعلام المنطقة على حد تعبيره، تحدث عنه بفخر.. هو الشيخ «عبدالحكيم عويان» الذى عمل دليلا سياحيا لأكثر من نصف قرن، ينتمى لعائلة استقرت فى هذا المكان منذ سنوات بعيدة: «كان يلقى ترحيبا عاليا من الكثير من الأجانب وزوار الهرم، وكذلك فى أثناء أسفاره إلى الخارج» هكذا يصف على العمدة الشيخ عويان الذى رحل العام الماضى تاركا خلفه ذرية اختار لهم أسماء فريدة تيمنا بالحقبة المصرية القديمة مثل: يوسف، وهامان ويعقوب وموسى.

...على خطى السيد عويان

تشير قصاصات الصحف إلى رحلة سياحية قام بها السيد عويان إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى العام 1986 أطل فيها بجلباب مصرى تقليدى داعيا للسلام العالمى مع مجموعة محبة للسلام تحت أعين السفارة المصرية. لكن الاطلاع على كتابات أخرى لبعض الباحثين الهواة والمهووسين بمنطقة الهرم تكشف أن بعضهم اتخذه مرجعا فى نقل بعض الاجتهادات الشفاهية عن تاريخ الهرم. إحدى المدربات الروحانيات استندت إليه فى اعتبار منطقة هضبة الهرم مركز تدفق الطاقات الكونية استنادا إلى هندسة الهرم وموقعه المتوافق مع الجهات الأربع الأصلية، وهو ما أعطى للهرم الأكبر على وجه التحديد مكانة كبيرة لدى الراغبين فى التأمل بحثا عن هذه الطاقة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كان للشيخ الراحل آراء خاصة تتعارض تماما مع كتب التاريخ الأكاديمية، مثل حديثه عن أن تاريخ بناء أهرامات الجيزة أبعد من تاريخ بنائها الحالى فى فترة ما قبل الفراعين، وهى آراء يعتنقها بعض الغربيين من المؤمنين بطاقة الهرم وغير معترف بها على المستوى الرسمى.

«كانت مجرد اجتهادات من الوالد الذى عاش فى المنطقة وعمل دليلا سياحيا فيها» هكذا يعلق يوسف عويان على آراء والده، وهو يعمل فى متجر مجاور لزميله على العمدة بين تماثيل على النمط المصرى القديم نحتها بيديه هو وأخوه موسى. وبدأ فى شرح رؤية أخرى عن هذا البناء الهرمى الفريد تجاوز فيها عين تاجر البازار القاطن فى رحاب الأثر إلى أبعاد أخرى، إذ يعتقد يوسف وكثيرون حول العالم فى إمكانية الاستفادة من طاقة الهرم من خلال عدة مجالات.
هناك زوار يؤمنون أن البناء الهندسى للهرم الأكبر وموقعه يجعله بمثابة مركز استقبال فيض كبير من طاقة الكون، وهو ما يفيد المتأملين ويزيد من تركيزهم ويسمو بأرواحهم على صعيد رحلات التأمل، ويرفع قدراتهم الروحية إذ إن لكل إنسان مجال طاقة خاصا به. وهو ما يجعل هذا البناء ذا خصوصية فريدة لديهم، وكان تواجد يوسف وإخوته منذ الصغر إلى جانب الهرم سببا فى أن يروا تجارب من أتوا خصيصا بهدف التأمل وإجراء تدريبات روحية.

«هناك من يأت إلى الهرم فقط بهدف ركوب الجمال والتصوير لكن هناك فئات جاءت خصيصا للهرم من أجل الاستشفاء الروحى واكتساب طاقة الهرم، لكل منا طاقة خاصة والتواجد فى الهرم وفى محيطه يزيد من طاقة الفرد ويعيد تنظيمها».

اليوم منعت السلطات «جماعات الهرم» من الدخول إلى منطقة أهرامات الجيزة لأسباب تتعلق بطقوسهم الغريبة، ويطلق العاملون فى المنطقة السياحية المجاورة للهرم على هذه الفئة من الزوار لقب «العبـَّادة» إشارة إلى ما يعتقده البعض فى أن هؤلاء الزوار هم من الوثنيين وأصحاب الديانات الغريبة، يوضح يوسف: «يجب التفريق بين نوعين من الزوار، الأول ينتمى إلى عقائد خاصة ذات طابع وثنى، والثانى هم فئة لا تهدف من المجىء إلى الهرم سوى التأمل الروحى».
يرافق يوسف بعض الأفواج القادمة إلى مصر فى زيارات روحية بعيدا عن منطقة أهرامات الجيزة، يقول: «بعضهم يأتى مع أحجار وكريستالات على أمل أن يحتفظ داخلها بجزء من طاقة الأماكن التى يزورها، ويؤدون طقوسا مثل إطلاق أصواتهم فى فضاء المكان لإبعاد الطاقات الدخيلة أو بتشابك الأيدى أو تلاوة عبارات بعينها. وهناك أرى مشاهد تفيض بالمشاعر تصل ببعضهم إلى البكاء والانهيار». أخته الكبرى شهرزاد سجلت تجربتها منذ سنوات فى لقاء مع إذاعة أمريكية عن موقف تعرضت له حين دخلت غرفة الملك فى الهرم فى سن السادسة، وشعرت بعدها بأنها حازت على «تجربة وخبرة روحية خاصة بها». هذا الطريق دفعها إلى تعلم العلاج بالطاقة وباللمس، ولمع نجمها منذ سنوات حتى صدر ضدهما قرار بإغلاق المركز الذى كانا يديرانه فى العام 2005 وواجها اتهامات بممارسة الدجل. يتفهم يوسف هذه الاتهامات الآن، لكنه متصالح مع هذا ويقول: «هذه أشياء غير خاضعة للعقل، ومنطقها المشاعر.. وهى تحتاج إلى جهد بحثى أكبر لتفسيرها».

...علم الأهرام

كان الهرم بهندسته وطاقته التى آمن بها البعض سببا فى رواج مفهوم «علوم الأهرام» حيث تتم الاستفادة من هذا الشكل الهندسى فى الكثير من البحوث العلمية. الأستاذ الدكتور حامد رشدى القاضى ــ أستاذ البيولوجيا الإشعاعية فى عدد من الجامعات والرئيس الأسبق لهيئة الطاقة الذرية ــ هو أحد هؤلاء الذين وجدوا فى منطقة أهرامات الجيزة ما هو أبعد من التأملات الروحية، والبحث عن إجابات علمية لبعض الظواهر مثل التوصل إلى أسباب تماسك مراكب الشمس التى اكتشفت جوار الأهرام نتيجة استخدام صخور تشع بغاز الرادون الذى يقضى على الكائنات الدقيقة. ويقول الدكتور حامد رشدى: «هناك أنشطة كهرومغناطيسية داخل الهرم يمكن الاستفادة منها فى استخدامات تقنية وصحية وطبية أو إعادة معالجة المياه. وهنا لا يتم التعامل معه كأثر بل كتشكيل هندسى».
ويرى الدكتور رشدى أن التوسع فى علوم الأهرام ونشرها قد يسهم فى تعزيز الانتماء لدى الشباب يشرح: «نشر العلم سيقضى على الدجل ويرسخ الحس العلمى، إلى جانب ارتباط هذا النوع من المعرفة بمصر وأهرامات مصر سيرسخ الانتماء الوطنى الذى نحتاج إليه الآن».

يشغل الدكتور حامد أيضا منصب الرئيس الفخرى لجمعية شمس النيل المصرية التى تكاد تكون الوحيدة المهتمة بهذا المجال من العلوم فى مقابل مئات الجمعيات الأجنبية التى تتعلق أنشطتها بالأهرامات المصرية. يقول أحمد نصار الرئيس التنفيذى للجمعية إن هناك دراسات على أرض الواقع فى مصر جرت على تأثير الفراغ الهندسى على الكائنات الحية، وأن دراسة فى جامعة المنوفية تناولت استخدامات طاقة الهرم الناتجة عن شكله الهندسى فى زيادة المحاصيل، من خلال ربط الفراغ المعمارى بالخلية الحيوية. وتابع: «تأثيرات تصميم الهرم يمكنها أن تفسر لنا بعض التأثيرات الروحية والنفسية المرتبطة بهذا المكان، وكان الهدف من إنشاء هذه الجمعية هو إعطاء قالب علمى بحت لكل الظواهر العلمية المتصلة بالهرم، من خلال مجموعة الباحثين من أعضاء الجمعية».
أبحاث الهرم حسب أحمد نصار تعد ضمن ملفات الأمن القومى فى كثير من البلدان وتوضع نتائجها فى قالب سرى لحصر الفائدة فى نطاق داخلى، وهو ما يعطى للهرم عدة تجليات سواء لدى زواره الذين لا يبحثون سوى عن نزهة ممتعة أو لدى من ترتبط أرزاقهم بوجوده، إلى جانب القادمين من أجل اكتناز طاقة يؤمنون بوجودها فى مجاله، ثم أخيرا لدى العاملين فى مجال بحوث الأهرام التى مازالت فى خطواتها الأولى فى مصر.

Sunday, October 11, 2009

متاجر يحرسها الشيوخ والزعماء

فى بعض الأحيان تتحول الصور المعلقة على جدران بعض
المحال والأماكن العامة إلى أيقونات تضفى قدسية على أصحابها وتعطى من يراها إحساسًا
بالأمان.

فى منتصف شارع محمود بسيونى ــ الأنتكخانة سابقا ــ بمنطقة وسط البلد القاهرية تقف الدكتورة فاطمة بدوى داخل صيدليتها لصرف الروشتات وإعطاء الحقن الطبية وإلقاء الأمنيات الطيبة بالشفاء العاجل لزوارها فى أجواء قد تبدو تقليدية للوهلة الأولى، لكن التقدم خطوات قليلة ناحية الباب يكشف عن روح أخرى تسيطر على المكان حيث يبرز الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى مدخل الصيدلية ليجذب أعين الزوار لا إراديا وكأن إطلاعهم على صورته طقس يؤدونه بمجرد دخول المكان.

«أنا من جيل الستينيات الذى رأى عبدالناصر وأفكاره وآمن بمبادئه كما شاهد انحيازه للفقراء والعمال والفلاحين»، لم تكن تلك هى الجملة الوحيدة التى وصفت بها الدكتورة فاطمة عصر عبدالناصر بل كانت مجرد مقدمة بسيطة فى حوار طويل عن عصر الزعيم الراحل اعتبرته نقطة تحول على العديد من المستويات بدءا من إتاحة التعليم لجميع الطبقات الاجتماعية حتى سياساته الخارجية. ولم تجد حرجا فى عقد مقارنات بين الزمن الحالى وزمن المجد الغابر.

كانت صورة الزعيم هى ما يوضح موقفها بشكل مباشر وقاطع فلم تبالغ حين وصفت جمال عبدالناصر بأنه أب روحى لها، ففى مدخل الصيدلية إلى جوار صور الزعيم وضعت صورة والدها بالأبيض والأسود وكأن جمال عبدالناصر فرد من أفراد العائلة.
وتضيف: «والدى كان يحبه أيضا.. رأينا فى تلك الفترة العديد من الأسباب التى تجعلنا نرتبط به حتى الآن، ففى مجال الصناعات الدوائية كانت الصناعة المصرية هى الأساس وكان الوكيل التجارى مصريا انصياعا لنظام اقتصاد هذه الفترة، وما إن ينته الشاب من تعليمه حتى يتلقى خطاب التعيين فور تخرجه، وضعى لهذه الصورة ليس ارتباطا بشخصه.. إنما بمبادئه التى أوجدت كل تلك الأمور».
يعمل فى الصيدلية مع الدكتورة فاطمة ابنها الشاب فى سن الثلاثين، لم يكن غريبا أن يحمل هو الآخر اسم جمال تيمنا باسم الرئيس الراحل.. جمال الدفترار نجل الدكتورة فاطمة متصالح مع ذكرى الزعيم ومع أسباب وجود صوره البارزة فى الصيدلية...
«وأما بنعمة ربك فحدث» بهذه الآية التى ذكرها جمال حاول توضيح أن الشخصيات والزعماء قد يكونون نعمة على بلدانهم، ويضيف: «ليس لدينا انتماءات سياسية ولسنا ناصريين بالمعنى التقليدى.. لكننا نعرف قدر هذا الرجل. فحين نرى الآن من كانوا مختلفين معه فى فترة حكمه وهم يشهدون له ولقراراته الآن، فهذا خير دليل على مكانة هذا الرجل».

فى وجود صور عبدالناصر مع إطلالته الجادة على زوار الصيدلية والمارة فى الشارع ترسل الصورة رسالة معلنة وإن كانت غير مباشرة إلى زوار المكان، ويرى الدكتور شاكر عبدالحميد ــ أستاذ علم النفس وصاحب الدراسات حول «العملية الإبداعية فى فن التصوير» و«عصر الصورة» ــ أن الصورة وظروف وجودها قد تخرج خارج إطار علاقتها بالسلطة وتوجد لأسباب أخرى، ويقول: «الصورة تجسد المعنى والرسالة أكثر من الكلمات العادية، كما تعبر الصورة عن أحلام اليقظة الشاردة التى لا تجد متنفسا لها، فيتم ابتعاث حلم اليقظة ويتجسد فى صورة الزعيم».

فى حديثها عن عبدالناصر لم تخف الدكتورة فاطمة ارتباطها بعصر الرئيس الراحل، ولعل رسالتها من وجود هذه الصورة قد وصلت إلى كثيرين مروا من هذا المكان فحسبما ذكرت «صور عبدالناصر فى مكانها هنا منذ أن بدأت عملى فى عام 1975، وكثيرا ما تأتينى تعليقات مشجعة خاصة من الزوار من الدول العربية من لبنان وسوريا واليمن، وتلقيت الكثير من التحيات على استمرار هذا الوفاء للزعيم الراحل صاحب الشعبية فى البلدان العربية». تتذكر واقعة طريفة عن زائر من اليمن فتن بصورة لعبدالناصر كانت جوار الصور الحالية فى نفس المكان، لكنها كانت أكبر حجما، وبعد مفاوضات وجدل اضطررت إلى إهدائه الصورة حين شعرت صدقه وحرصه على اقتناء صورة الزعيم الراحل.

يتدخل نجلها جمال «لسنا من هواة اقتناء الصور.. لكن شخصية الفرد هى ما تفرض وجوده، فوالدى على سبيل المثال يضع صورة الأنبا شنودة فى مكتبه رغم أننا مسلمون، فقط لأنه يقدر قيمة هذا الرجل ومكانته فى مصر». تؤيده فى ذلك والدته وتضيف: «المسألة كلها متعلقة بالانتماء إلى المبادئ وليس للأشخاص».

شعور بالأمان
المفارقة أن صيدلية الأنتكخانة ليست وحدها المفتونة بصور الرؤساء فإلى جوارها مقهى شعبى رفع صورة الرئيس الأمريكى باراك أوباما فوق نتيجة العام، وفى متاجر أخرى أبعد مسافة رفع أحدهم صورة الرئيس الراحل محمد أنور السادات وهو ما لم يبد أى من الدكتورة فاطمة أو نجلها جمال أى تحفظ عليه بل قالا فى أداء واحد «كل واحد حر».

أحد هؤلاء الذين رفعوا صورة الرئيس الراحل أنور السادات كان «وليد على» الذى ظل فترة رافعا الصورة التى رسمها بيده فى متجره ناحية منطقة لاظوغلى، ولم يكن ذلك إعلانا عن موقف بقدر ما كانت صورة ضمن مجموعة من صور الزعماء والشخصيات المشهورة التى يرسمها لزبائنه من محبى اقتناء صور المشاهير، لكن اختياره صورة الرئيس الراحل السادات تحديدا لم يكن من قبيل الصدفة ولا لأسباب فنية متعلقة بالصورة يقول: «اختيار السادات تحديدا كان نتيجة حبى له، فأنا عشت أيامه وفى تقديرى الشخصى أراه عقلية جبارة.. أنا عاشق لهذا الرجل».

كانت صورة السادات هى واجهة متجره حين عمل فترة مستقلا فى متجر خاص، أما فى المكان الذى يعمل فيه منذ سنوات طويلة فتحمل واجهة المحل صورا أخرى لا تنتمى لنمط واحد من الشخصيات، حيث تتجاور صور العائلة الملكية مع صور الرؤساء وتحيطها صور فوتوغرافية أخرى لمشاهير الفنانين، ويعتبر وليد رسم هذه الصور فى النهاية مجرد عمل يؤديه إلى زبون، فرغم عشقه للسادات فإنه يرسم بيديه صورا للعائلة الملكية، يقول: «تأتينى طلبات لهذا النوع من صور الشخصيات الملكية والفنية من عهد ما قبل الثورة، وهو ما لم يظهر إلا منذ عدة سنوات فقط، عدا هذا فلا يوجد نمط معين من الزبائن يطلب صور الزعماء، فقد جاءنى فى إحدى المرات شخص بسيط الحال يطلب صورة الرئيس جمال عبدالناصر، دون أن يبدو عليه مظاهر حب اقتناء الصور، أو أى انتماء.. فقط نتيجة حبه هذا الزعيم».
لا يخفى وليد على الذى يقدم نفسه كفنان تشكيلى ولعه بصور عبدالناصر وتحديدا صور مصوره الخاص حسين بكر وقدرته الفذة على التقاط كادرات مميزة، وهو ما لم يتناف مع افتتانه بسياسة السادات.

أما الطلب الرئيسى لدى وليد فهو على البورتريهات الشخصية للأفراد، وهذا هو عمله الأصلى الملحق باستوديو التصوير الذى يستضيف موهبته فى رسم البورتريه الشخصى. أما فى واجهة المتجر فليست كل الصور لزعماء أو فنانين فمن أكثر اللوحات قيمة لديه واحدة للشيخ محمد متولى الشعراوى ولوحة للسيدة العذراء سماها الأمومة، لا يبيع نسخها الأصلية بل يستنسخها. ورغم الأجواء الاحترافية التى أدار بها حديثه عن الصور فإن الحديث عن صورة الشيخ الشعراوى وصورة العذراء كان أشبه بحديث عن أيقونات دينية مقدسة.
يؤكد الدكتور شاكر عبدالحميد على وظيفة أخرى للصورة وعلاقتها بالإنسان وما توصله من رسائل للفرد «أحيانا ما يكون الهدف من الصورة هو بث الإحساس بالأمان فى مقابل الخوف وانعدام الأمن خارج إطار هذه الصورة». يضيف الدكتور شاكر بعدا آخر فى علاقة الفرد بالصورة حين تتحول شخصية صاحب الصورة إلى رمز «فى هذه الحالة تعمل الذاكرة الفردية على استدعاء ما بداخل الإنسان من حب وتقدير لصاحب الصورة وما له من صفات إيجابية تستدعيها الصورة».

الشيخ والمريد

هذه الحالة الأخيرة توضحها علاقة البعض مع صور الرموز الدينية حين يضعونها فى متاجرهم كقدوة حاضرة معهم فى نشاطهم اليومى تراقب أفعالهم بابتسامة راضية لن ينالوها فى الواقع إما لوفاة صاحب الصورة أو صعوبة التقائه. الحاجة نادية إبراهيم المصرى (68 سنة) تقيم أغلب يومها فى متجرها البسيط بمنطقة الدراسة جوار مسجد الشيخ صالح الجعفرى، داخل المتجر صور متنوعة للشيخ الجعفرى المتوفى عام 1979، أغلبها التقطت فى مكان إلقاء دروسه على مريديه من كل الأقطار فى رواق المغاربة بالجامع الأزهر..
وللسيدة نادية إبراهيم صلة أعمق بالشيخ الجعفرى، فزوجها الراحل أبوالعلا أحمد هنداوى كان من أتباع الشيخ ومريديه، ترك وظيفته بعد أن وصل إلى منصب مدير وظل ملازما للشيخ صالح فى خلوته وفى مجالس العلم وفى تحضير موائد الطعام للمحتاجين.

«كان الشيخ داعية للإسلام وعالما قدم للناس الصوفية الحقيقية بعيدا عن الابتذال» هذه الكلمات كانت مقدمة تعريفية تلقيها السيدة نادية أحيانا على بعض الزبائن الواقفين فى متجرها لتصوير مستنداتهم أو شراء سلعة سريعة حين يسأل أحدهم عن صاحب الصورة. نفس هذه الصور المعلقة فى متجرها توفرها مكتبة مجاورة فى رحاب المسجد تبيع كتب الشيخ وأوراده.

ويشترى المريدون الصور للتبرك بها والاحتفاظ بذكرى شيخهم مؤسس الطريقة الجعفرية.
لدى الحاجة نادية القدرة على الرد على من قد يتهمونها بإضفاء مظاهر التقديس على شيخها بوضع صورته داخل المتجر تقول: «هل وضع الابن صورة أبيه المتوفى ما يضفى قداسة على والده؟ إنه الوفاء لرجل ساعدنى بشكل شخصى على الهداية، وولاء من مريديه الذين تحلقوا حوله سنوات فى مجالس العلم وما زالوا متصلين بأوراده وأذكاره وعلمه».
لدى السيدة نادية وعى كامل بما يسدد إلى الصوفية من انتقادات وتحديدا فى علاقة الشيخ بالمريد وما قد يصل إلى البعض من أن صور شيوخ الصوفية امتداد لعلاقة الخضوع بين الطرفين، لكنها تقدم جانبا آخر لم تخف فيه اعتزازها بشيخها الجعفرى «الشيخ صالح تحديدا كان رجل علم، يلقى دروسه فى الحضرة، له دور عظيم فى حياة الكثيرين، فبعد أخذ العهد من مريديه ينال التابع التكليفات الروحية بحيث تتناسب مع حياته وظروفها، وتوفر لمريديه القدرة على النجاح فى حياتهم، وليس لى صلة بمن قد يتطرف من المتصوفة، لكن الاعتدال هو ما يضبط هذه العلاقة، والاحتفاظ بهذه الصور ليس إلا فى نطاق هذه العلاقة الصحية بيننا وبين الشيخ رحمه الله».
قد تختلف سياسة الرئيس الراحل السادات مع سياسة الرئيس جمال عبدالناصر، وقد تختلف ديانة الشيخ صالح الجعفرى عن الأنبا شنودة، إلا أن الخيط الوحيد الذى يجمع هذه الصور هو اقترابها من درجة الأيقونات حين تعلق فوق جدران متاجر المحبين والمريدين وأن لكل منها رسالة أراد صاحب المتجر أن يوصلها إلى نفسه فيطمئن، وإلى الآخرين فيتذكروا.

Sunday, October 4, 2009

نبش فى ذاكرة محارب قديم

الاحد 4 اكتوبر 2009

عبد الرحمن مصطفى
..........روح أكتوبر تسكن القلوب، خاصة بالنسبة لهؤلاء الذين خاضوا هذه الحرب و يخشون أن تتلاشى هذه الروح من الذاكرة. شهادات.

لا يجد الدكتور أحمد نوار الفنان التشكيلى والأستاذ بكلية الفنون الجميلة (جامعة حلوان)، أى عناء فى استعادة أجواء نصر أكتوبر أثناء عمله الحالى على مشروعه الفنى الأخير «العبور». تكفى نظرات متأملة داخل مرسمه الخاص للكشف عن لمسات محارب قديم بدت واضحة على أغلب أعماله الفنية هناك، ورغم أنه لم يكن فى مصر وقت نصر أكتوبر 1973 فإنه ما زال محتفظا بقناعته فى أن «الطريق إلى النصر بدأ فى حرب الاستنزاف».

كان المجند والفنان الشاب أحمد نوار ضمن صفوف القوات المسلحة فى حرب الاستنزاف بين عامى 1968 و1970، قناصا محترفا نجح فى اقتناص خمسة عشر إسرائيليا بينهم قناصون محترفون، ونفذ عمليات خلف خطوط العدو.
هناك رأى ساحة الحرب مثل لوحة يدرس ظلالها وألوانها، ولم يجد للسؤال الذى دار برأسه «كيف يقتل الإنسان إنسانا آخر؟» سوى إجابة واحدة تحققت فى عام 1973 وهى دفع الظلم عن المظلوم. تلك الخبرة التى سجلها فى كتابه «نوار.. عين الصقر»، ونقلها إلى أعماله الفنية، يصفها قائلا: «مازالت مشاهد الطلقات الحارقة والصواريخ التى تخترق ظلام الليل بأنوارها وألوانها حاضرة فى الخطوط الدقيقة فى أعمالى الفنية».

بعيدا عن التأثيرات الفنية يدين الفنان أحمد نوار إلى تجربة الحرب التى زرعت داخل من مروا بها روح المقاتل الباحث عن النصر. حتى إن لم تكن هى السائدة الآن.. يصف هذا قائلا: «لم أعد أتعجب حين أرى فنانا يسخر من الحديث عن الحرب.
فهو لم يجد المنظومة الكاملة التى تنقل له أهمية التجربة، اليوم نرى أطفالا صغارا يحفظون الإعلانات المكررة دون أن نتساءل كم قيمة فنية أو حدثا وطنيا أدركه هؤلاء الأطفال؟ لا أدعو إلى تحويل الوطنية إلى قيد على الناس بل إلى جعلها إطارا لحركتهم، وتكفى نظرة إلى الأفلام السينمائية الأمريكية وكيف يحتفى صناع السينما بالعلم الأمريكى حتى فى مشاهد الخراب، ونتساءل: أين نحن من هذا!؟».

حرب الاستنزاف أضفت خبرة خاصة فى أذهان من عاشوها ويقول الدكتور نوار: «تعلمت من تجربة الحرب أنه لا يوجد مستحيل، رأيت بطولات وعبقريات من الجنود المصريين، وتعلمت كيف يمكن للمصريين أن يجتمعوا حول هدف ومشروع إذا تم التخطيط المناسب له، وهو ما حاولت تطبيقه فى حياتى العملية من خلال المناصب التى توليتها».
وبكل اعتزاز يتحدث عن تجربة المقاتل الناجح فى الحرب، وهو ما حاول نقله أيضا من خلال عمله الأكاديمى ، ويقول: «لا أتلو قصصا مسلية عن الحرب بل للتحفيز على الابتكار وتحقيق الذات، وأثناء إلقائى المحاضرات على آلاف الشباب أجد رد فعل طيبا، خاصة حين أبرز لهم بطولات شباب كانوا فى مثل سنهم استردوا أراضينا المحتلة، لكن تبقى مهمة استثمار هذه الروح هى المهمة الأكبر».

العبور أحمد
الدكتور أحمد عبد العال- أستاذ الجغرافيا البشرية فى كلية الآداب بجامعة الفيوم- هو أحد هؤلاء الذين مروا بتلك المرحلة أيضا وما زالوا فى شوق إليها و يردد بفخر: «يكفينى اليوم أن السلام الذى عاشته مصر كان بسببنا وخاصة على أيدى الشهداء العظام».

مازال يتذكر يوم الاثنين 22 أكتوبر عام 1973حين لم تلتزم إسرائيل بقرار وقف إطلاق النار وشنت هجمات كانت إحداها على المجموعة التى كان ضمها المجند أحمد عبد العال قرب معسكر الجلاء فاستشهد من حوله وأصيب هو بإصابات خطيرة فى الظهر والذراع والركبة، وانتقل بين المستشفيات العسكرية يتابع علاجه حتى شهر مايو من عام 1975، احتفظ بعدها بآثار المعركة على جسده وفى ذاكرة لا تنسى روح الحرب والانتصار.
يقول : «لا يعرف حلاوة انتصار أكتوبر إلا من عاش مرارة هزيمة يونيو، وكنت بعد الحرب آمل أن تنطلق مصر إلى فضاء واسع فى مجالات أكبر، لكن لم تتحقق التوقعات». لا يخفى الدكتور أحمد عبد العال مرارة حين يجد روح أكتوبر قد تلاشت من ذاكرة البعض وابتعدت عن شباب اليوم، وهو ما حاول بجهد فردى أن ينقله إلى طلبته ويوضح : «استثمر كل مناسبة فى الندوات والتجمعات بالطلبة كى أشير إلى نصر أكتوبر حتى إن جاءت الاستجابة ضعيفة أو حين لا تتجاوز حد التعاطف».

يروى أحد المواقف الدالة أثناء رحلة علمية إلى سيناء، حيث واجه طلبته صورة المحارب القديم مستترة وراء الملمح الأكاديمى ويقول: «لم أتمالك نفسى من البكاء وانهرت حين وصلنا طابا، وتذكرت تاريخ العمليات التى جرت فى الحرب والشهداء الذين فقدتهم ودفنتهم بنفسى، وقتها تفهم الطلاب علاقتنا الخاصة بالوطن وكيف يجب الحفاظ عليه، بعد أن كانوا قد أبدوا قبلها بقليل اعتراضهم على استماعى لأغانى الذكريات الوطنية أثناء الرحلة».
يرى الدكتور أحمد عبد العال أن للعابرين ــ وهو الوصف الذى أطلقه على أبطال الحرب ــ سمات نفسية واحدة، لاحتفاظهم حتى اليوم بجزء من إصرار وعزيمة حققت هذا الانجاز وعمقت الولاء للوطن، هذه الروح المتميزة لم يكن التعبير عنها فقط محصورا لديه فى علاقته مع طلبته، بل عبر عنه فى إنتاج إبداعى عبر عشرات القصص القصيرة والقصائد التى حمل كثير منها ذكريات الحرب، ورواية كتبها تحت عنوان «العبور أحمد» التى مزج فيها سيرته الذاتية وتجربة الحرب مع الخيال إلى جانب قصص أخرى سمعها من محاربين آخرين..

إحدى هذه القصص الحقيقية خصص لها مساحة فى روايته.. بطلها الحقيقى هو سيد إبراهيم أحد جنود حرب أكتوبر، نشرت قصته منذ سنوات فى جريدة الأهرام ونال تكريما عسكريا، ورغم أنهما لم يلتقيا فى ساحة الحرب فإنهما يشتركان فى نفس الذاكرة.

سيد إبراهيم هو الآخر نال إصابة أثناء اشتباك مباشر مع الجنود الإسرائيليين فى يوم السابع من أكتوبر أثناء عملية للقوات الخاصة، بدأ التحضير لها مبكرا فى ليل الخامس من أكتوبر، ويصف الروح السائدة بين الجنود آنذاك: «حماسنا للعملية لم يشعرنا بجوع أو عطش الصيام، كنا خلف خطوط العدو لتعطيل عمليات الاحتياطى الاستراتيجى الإسرائيلى. وخرجنا فى مجموعة تضم 25 جنديا، استشهد منهم 14 شهيدا فى اشتباك أثناء تغيير موقعنا، وفى فجر السابع من أكتوبر تعرض لنا كمين إسرائيلى واستشهد من معى عدا ثلاثة جنود كنت واحدا منهم مع إصابات بالغة».
قضى المقاتل سيد إبراهيم وقتها قرابة العام بين غرف العمليات الجراحية وسرير المستشفى محتفظا بآثار الحرب على جسده، وحاملا روح أكتوبر داخله، ما زال يتذكر كلمات القائد الشهيد إبراهيم الرفاعى «أسطورة العمليات الخاصة» فى محاضراته أن «الوطن يعيش بداخلنا». لا يصيبه الأسى كمحارب قديم سوى حين يقرأ أو يسمع كلمات تشكك فى الحرب وجدواها، أو حوادث طائفية لم يرها بين حاملى روح أكتوبر، حيث اجتمع الجميع فى هدف واحد هو تحقيق النصر، ولا يقلل من حزنه النبيل سوى اطمئنانه لحال العسكرية المصرية اليوم.

روح أكتوبر يرى البعض أنها فى خطر مع رحيل من خاضوا الحرب وعدم وجود قناة توصلها إلى الواقع، وهو ما عبر عنه الدكتور أحمد نوار فى تجديد دعوته القديمة لمشروع سلسلة وثائقية تسجل تاريخ الإنسان المصرى فى حرب أكتوبر 1973، وتكشف عن أبطال لم تصل إليهم الشهرة لتسجيل شهاداتهم قبل رحيلهم.