Sunday, October 4, 2009

نبش فى ذاكرة محارب قديم

الاحد 4 اكتوبر 2009

عبد الرحمن مصطفى
..........روح أكتوبر تسكن القلوب، خاصة بالنسبة لهؤلاء الذين خاضوا هذه الحرب و يخشون أن تتلاشى هذه الروح من الذاكرة. شهادات.

لا يجد الدكتور أحمد نوار الفنان التشكيلى والأستاذ بكلية الفنون الجميلة (جامعة حلوان)، أى عناء فى استعادة أجواء نصر أكتوبر أثناء عمله الحالى على مشروعه الفنى الأخير «العبور». تكفى نظرات متأملة داخل مرسمه الخاص للكشف عن لمسات محارب قديم بدت واضحة على أغلب أعماله الفنية هناك، ورغم أنه لم يكن فى مصر وقت نصر أكتوبر 1973 فإنه ما زال محتفظا بقناعته فى أن «الطريق إلى النصر بدأ فى حرب الاستنزاف».

كان المجند والفنان الشاب أحمد نوار ضمن صفوف القوات المسلحة فى حرب الاستنزاف بين عامى 1968 و1970، قناصا محترفا نجح فى اقتناص خمسة عشر إسرائيليا بينهم قناصون محترفون، ونفذ عمليات خلف خطوط العدو.
هناك رأى ساحة الحرب مثل لوحة يدرس ظلالها وألوانها، ولم يجد للسؤال الذى دار برأسه «كيف يقتل الإنسان إنسانا آخر؟» سوى إجابة واحدة تحققت فى عام 1973 وهى دفع الظلم عن المظلوم. تلك الخبرة التى سجلها فى كتابه «نوار.. عين الصقر»، ونقلها إلى أعماله الفنية، يصفها قائلا: «مازالت مشاهد الطلقات الحارقة والصواريخ التى تخترق ظلام الليل بأنوارها وألوانها حاضرة فى الخطوط الدقيقة فى أعمالى الفنية».

بعيدا عن التأثيرات الفنية يدين الفنان أحمد نوار إلى تجربة الحرب التى زرعت داخل من مروا بها روح المقاتل الباحث عن النصر. حتى إن لم تكن هى السائدة الآن.. يصف هذا قائلا: «لم أعد أتعجب حين أرى فنانا يسخر من الحديث عن الحرب.
فهو لم يجد المنظومة الكاملة التى تنقل له أهمية التجربة، اليوم نرى أطفالا صغارا يحفظون الإعلانات المكررة دون أن نتساءل كم قيمة فنية أو حدثا وطنيا أدركه هؤلاء الأطفال؟ لا أدعو إلى تحويل الوطنية إلى قيد على الناس بل إلى جعلها إطارا لحركتهم، وتكفى نظرة إلى الأفلام السينمائية الأمريكية وكيف يحتفى صناع السينما بالعلم الأمريكى حتى فى مشاهد الخراب، ونتساءل: أين نحن من هذا!؟».

حرب الاستنزاف أضفت خبرة خاصة فى أذهان من عاشوها ويقول الدكتور نوار: «تعلمت من تجربة الحرب أنه لا يوجد مستحيل، رأيت بطولات وعبقريات من الجنود المصريين، وتعلمت كيف يمكن للمصريين أن يجتمعوا حول هدف ومشروع إذا تم التخطيط المناسب له، وهو ما حاولت تطبيقه فى حياتى العملية من خلال المناصب التى توليتها».
وبكل اعتزاز يتحدث عن تجربة المقاتل الناجح فى الحرب، وهو ما حاول نقله أيضا من خلال عمله الأكاديمى ، ويقول: «لا أتلو قصصا مسلية عن الحرب بل للتحفيز على الابتكار وتحقيق الذات، وأثناء إلقائى المحاضرات على آلاف الشباب أجد رد فعل طيبا، خاصة حين أبرز لهم بطولات شباب كانوا فى مثل سنهم استردوا أراضينا المحتلة، لكن تبقى مهمة استثمار هذه الروح هى المهمة الأكبر».

العبور أحمد
الدكتور أحمد عبد العال- أستاذ الجغرافيا البشرية فى كلية الآداب بجامعة الفيوم- هو أحد هؤلاء الذين مروا بتلك المرحلة أيضا وما زالوا فى شوق إليها و يردد بفخر: «يكفينى اليوم أن السلام الذى عاشته مصر كان بسببنا وخاصة على أيدى الشهداء العظام».

مازال يتذكر يوم الاثنين 22 أكتوبر عام 1973حين لم تلتزم إسرائيل بقرار وقف إطلاق النار وشنت هجمات كانت إحداها على المجموعة التى كان ضمها المجند أحمد عبد العال قرب معسكر الجلاء فاستشهد من حوله وأصيب هو بإصابات خطيرة فى الظهر والذراع والركبة، وانتقل بين المستشفيات العسكرية يتابع علاجه حتى شهر مايو من عام 1975، احتفظ بعدها بآثار المعركة على جسده وفى ذاكرة لا تنسى روح الحرب والانتصار.
يقول : «لا يعرف حلاوة انتصار أكتوبر إلا من عاش مرارة هزيمة يونيو، وكنت بعد الحرب آمل أن تنطلق مصر إلى فضاء واسع فى مجالات أكبر، لكن لم تتحقق التوقعات». لا يخفى الدكتور أحمد عبد العال مرارة حين يجد روح أكتوبر قد تلاشت من ذاكرة البعض وابتعدت عن شباب اليوم، وهو ما حاول بجهد فردى أن ينقله إلى طلبته ويوضح : «استثمر كل مناسبة فى الندوات والتجمعات بالطلبة كى أشير إلى نصر أكتوبر حتى إن جاءت الاستجابة ضعيفة أو حين لا تتجاوز حد التعاطف».

يروى أحد المواقف الدالة أثناء رحلة علمية إلى سيناء، حيث واجه طلبته صورة المحارب القديم مستترة وراء الملمح الأكاديمى ويقول: «لم أتمالك نفسى من البكاء وانهرت حين وصلنا طابا، وتذكرت تاريخ العمليات التى جرت فى الحرب والشهداء الذين فقدتهم ودفنتهم بنفسى، وقتها تفهم الطلاب علاقتنا الخاصة بالوطن وكيف يجب الحفاظ عليه، بعد أن كانوا قد أبدوا قبلها بقليل اعتراضهم على استماعى لأغانى الذكريات الوطنية أثناء الرحلة».
يرى الدكتور أحمد عبد العال أن للعابرين ــ وهو الوصف الذى أطلقه على أبطال الحرب ــ سمات نفسية واحدة، لاحتفاظهم حتى اليوم بجزء من إصرار وعزيمة حققت هذا الانجاز وعمقت الولاء للوطن، هذه الروح المتميزة لم يكن التعبير عنها فقط محصورا لديه فى علاقته مع طلبته، بل عبر عنه فى إنتاج إبداعى عبر عشرات القصص القصيرة والقصائد التى حمل كثير منها ذكريات الحرب، ورواية كتبها تحت عنوان «العبور أحمد» التى مزج فيها سيرته الذاتية وتجربة الحرب مع الخيال إلى جانب قصص أخرى سمعها من محاربين آخرين..

إحدى هذه القصص الحقيقية خصص لها مساحة فى روايته.. بطلها الحقيقى هو سيد إبراهيم أحد جنود حرب أكتوبر، نشرت قصته منذ سنوات فى جريدة الأهرام ونال تكريما عسكريا، ورغم أنهما لم يلتقيا فى ساحة الحرب فإنهما يشتركان فى نفس الذاكرة.

سيد إبراهيم هو الآخر نال إصابة أثناء اشتباك مباشر مع الجنود الإسرائيليين فى يوم السابع من أكتوبر أثناء عملية للقوات الخاصة، بدأ التحضير لها مبكرا فى ليل الخامس من أكتوبر، ويصف الروح السائدة بين الجنود آنذاك: «حماسنا للعملية لم يشعرنا بجوع أو عطش الصيام، كنا خلف خطوط العدو لتعطيل عمليات الاحتياطى الاستراتيجى الإسرائيلى. وخرجنا فى مجموعة تضم 25 جنديا، استشهد منهم 14 شهيدا فى اشتباك أثناء تغيير موقعنا، وفى فجر السابع من أكتوبر تعرض لنا كمين إسرائيلى واستشهد من معى عدا ثلاثة جنود كنت واحدا منهم مع إصابات بالغة».
قضى المقاتل سيد إبراهيم وقتها قرابة العام بين غرف العمليات الجراحية وسرير المستشفى محتفظا بآثار الحرب على جسده، وحاملا روح أكتوبر داخله، ما زال يتذكر كلمات القائد الشهيد إبراهيم الرفاعى «أسطورة العمليات الخاصة» فى محاضراته أن «الوطن يعيش بداخلنا». لا يصيبه الأسى كمحارب قديم سوى حين يقرأ أو يسمع كلمات تشكك فى الحرب وجدواها، أو حوادث طائفية لم يرها بين حاملى روح أكتوبر، حيث اجتمع الجميع فى هدف واحد هو تحقيق النصر، ولا يقلل من حزنه النبيل سوى اطمئنانه لحال العسكرية المصرية اليوم.

روح أكتوبر يرى البعض أنها فى خطر مع رحيل من خاضوا الحرب وعدم وجود قناة توصلها إلى الواقع، وهو ما عبر عنه الدكتور أحمد نوار فى تجديد دعوته القديمة لمشروع سلسلة وثائقية تسجل تاريخ الإنسان المصرى فى حرب أكتوبر 1973، وتكشف عن أبطال لم تصل إليهم الشهرة لتسجيل شهاداتهم قبل رحيلهم.

No comments:

Post a Comment