الخميس 25 يونيو 2009كتب ــ عبدالرحمن مصطفى
قد تكفى ابتسامة خفيفة أو إشارة باليد للتعبير عن طرافة المشهد وغرابة استمراره إلى الآن.. إعلانان نادران نجحا فى البقاء أكثر من نصف القرن فى نفس الموضع على نفس البناية، الأول «أسبيول.. يزيل الآلام»، والثانى «بلمونكس.. ضد الكحة». كلاهما بدا وكأنه جزء من واجهة العمارة، لكن الأمر لا يقتصر عليهما فقط فلهذين الإعلانين الغريبين إخوة على قيد الحياة فى شوارع المدينة، تطالع المارة وتتابع تبدل أحوال القاهرة على مدى سنين ابتلعت فيها كما لا بأس به من غبار الشارع وعادم السيارات.
الوقوف عند نقطة التقاء شارعى عدلى ومحمد فريد فى منطقة «وسط البلد» القاهرية يتيح فرصة أكبر لمشاهدة إعلانى الدواء، لكنه لا يجيب عن تساؤل قد يخطر على بال من يراهما «هل تمثل هذه الإعلانات أية قيمة أم أنها سقطت سهوا من ذاكرة الشارع؟».
فى مدخل نفس العمارة ناحية شارع محمد فريد إعلان آخر فى واجهة استوديو تصوير يقول«لدينا صور قديمة ونادرة»، وكأنها إشارة إلى احتمال أن يكون لدى صاحب الاستوديو اهتمام بهذا السؤال..جاكوب كيروبيان ذو الأصل الأرمنى والعمر المديد استقبلنى فى محرابه بين صور المشاهير وأدوات التصوير القديمة التى ورثها عن والده. ظن فى البداية أنها زيارة زبون أراد شراء الصور القديمة المعلن عنها، وحين أخبرته أننى مجرد متطفل أراد أن يسأل عن إعلان قديم لا داعى لوجوده الآن، كنت كمن فجر لغما فى ذاكرته «إعلان شركة الأدوية؟!!» واستغل الفرصة لاستدعاء قصة المكان وتفاصيله مرة أخرى. وذكر أنه بالقرب من موضع هذه العمارة كانت هناك مبانٍ ونادٍ اجتماعى تابعين لكنيسة، وبيعت لتاجر يهودى اسمه فرانسيس، اشتراها لأنها قريبة من المعبداليهودى، لذا حملت العمارة اسم عمارة فرانسيس، حتى جاء مالك شامى آخر من عائلة شوشة واستمر الوضع كذلك حتى انتقلت تبعيتها لشركة التأمين. هذه الجمل التى حاول بها جاكوب استعراض تاريخ المكان جعلته ينسى قصة الإعلان، وانهمك فى شرح تفاصيل أخرى عما حدث لوسط البلد وعماراتها وما آلت إليه الآن نتيجة تجاوزات بعض أصحاب المتاجر على جمالياتها المعمارية، وحين عدت معه إلى إعلان الدواء مرة أخرى أجاب باختصار: «مجرد إعلانين لشركة دوش لصناعة الأدوية التى كانت تقع قديما فى الطابق الثانى من نفس البناية، ومع تغير أحوال البلد بعد الثورة، تركت الشركة مكانها ولم يفكر أحد من القاطنين فى إزالة تلك اللوحات».
الصعود إلى الطابق الثانى ينتهى بلافتة ذى ملمح حكومى خالص «الشركة المصرية للأبحاث والتطوير التابعة للشركة القابضة للأدوية»، هنا لا أحد يتذكر شركة «دوش» للأدوية ولا إعلانها الطريف على واجهة البناية، عرفها فقط أحد المديرين القدامى بحكم عمله فى مجال صناعة الدواء واستخدامه هذه المنتجات فى الصغر. أماجاكوب كيروبيان فلم يجد سوى عبارة مبتسرة وابتسامة رجل عاصر تطور المنطقة على مدى عقود «ببساطة الشركة رحلت، ولم يجد أحد حرجا فى بقاء الإعلان كما هو على واجهة العمارة».
صورة هذا العقار بواجهته الإعلانية هى واحدة من صور عقارات تم رصدها وتوثيقها فى كتاب القاهرة الخديوية للدكتورة سهير حواس ــ أستاذة العمارة والتصميم العمرانى بهندسة القاهرة ــ التى صنفت المبنى بأنه من الطراز «الكلاسيكى» الذى يعود بناؤه إلى النصف الأول من القرن العشرين. وترى سهير حواس بحكم موقعها فى الجهاز القومى للتنسيق الحضارى المختص بالحفاظ على الشكل الجمالى لمبانى وشوارع المدن، أن علاقة الإعلان بالمبنى لها أبعاد أخرى أوضحتها بحسم «الأولوية للمبنى وليست للإعلان، هذه الإعلانات التى قد تبدو كجزء من ذاكرة المكان تقتطع جزءا أهم من جماليات المبنى وهى فى الحقيقة عبء عليه، سواء كانت إعلانات قديمة أو حديثة، وهى المشكلة التى نتعامل معها الآن فى مشروع تطوير القاهرة الخديوية بهدف تعويد أعين الناس على رؤية جماليات العمارة التى تسرقها الإعلانات».
قد تكفى ابتسامة خفيفة أو إشارة باليد للتعبير عن طرافة المشهد وغرابة استمراره إلى الآن.. إعلانان نادران نجحا فى البقاء أكثر من نصف القرن فى نفس الموضع على نفس البناية، الأول «أسبيول.. يزيل الآلام»، والثانى «بلمونكس.. ضد الكحة». كلاهما بدا وكأنه جزء من واجهة العمارة، لكن الأمر لا يقتصر عليهما فقط فلهذين الإعلانين الغريبين إخوة على قيد الحياة فى شوارع المدينة، تطالع المارة وتتابع تبدل أحوال القاهرة على مدى سنين ابتلعت فيها كما لا بأس به من غبار الشارع وعادم السيارات.
الوقوف عند نقطة التقاء شارعى عدلى ومحمد فريد فى منطقة «وسط البلد» القاهرية يتيح فرصة أكبر لمشاهدة إعلانى الدواء، لكنه لا يجيب عن تساؤل قد يخطر على بال من يراهما «هل تمثل هذه الإعلانات أية قيمة أم أنها سقطت سهوا من ذاكرة الشارع؟».
فى مدخل نفس العمارة ناحية شارع محمد فريد إعلان آخر فى واجهة استوديو تصوير يقول«لدينا صور قديمة ونادرة»، وكأنها إشارة إلى احتمال أن يكون لدى صاحب الاستوديو اهتمام بهذا السؤال..
الصعود إلى الطابق الثانى ينتهى بلافتة ذى ملمح حكومى خالص «الشركة المصرية للأبحاث والتطوير التابعة للشركة القابضة للأدوية»، هنا لا أحد يتذكر شركة «دوش» للأدوية ولا إعلانها الطريف على واجهة البناية، عرفها فقط أحد المديرين القدامى بحكم عمله فى مجال صناعة الدواء واستخدامه هذه المنتجات فى الصغر. أما
صورة هذا العقار بواجهته الإعلانية هى واحدة من صور عقارات تم رصدها وتوثيقها فى كتاب القاهرة الخديوية للدكتورة سهير حواس ــ أستاذة العمارة والتصميم العمرانى بهندسة القاهرة ــ التى صنفت المبنى بأنه من الطراز «الكلاسيكى» الذى يعود بناؤه إلى النصف الأول من القرن العشرين. وترى سهير حواس بحكم موقعها فى الجهاز القومى للتنسيق الحضارى المختص بالحفاظ على الشكل الجمالى لمبانى وشوارع المدن، أن علاقة الإعلان بالمبنى لها أبعاد أخرى أوضحتها بحسم «الأولوية للمبنى وليست للإعلان، هذه الإعلانات التى قد تبدو كجزء من ذاكرة المكان تقتطع جزءا أهم من جماليات المبنى وهى فى الحقيقة عبء عليه، سواء كانت إعلانات قديمة أو حديثة، وهى المشكلة التى نتعامل معها الآن فى مشروع تطوير القاهرة الخديوية بهدف تعويد أعين الناس على رؤية جماليات العمارة التى تسرقها الإعلانات».
المشروب العجيب
العلاقة بين الإعلان والمبنى التاريخى ــ حسب حديث الدكتورة سهير حواس ــ اجتازت مرحلة التجميل إلى الخضوع لقانون 144 لعام 2006 المتعلق بالحفاظ على المبانى ذات الطراز المعمارى المتميز، كما تخضع لقانون التنسيق الحضارى رقم 199 لعام 2008 الذى حدد هذه المبانى وكفل لجهاز التنسيق الحضارى المعايير اللازمة للحفاظ على طرزها المعمارية. أما المفارقة أن بعض هذه الإعلانات المسكوت عنها طوال أكثر من نصف القرن قد أصبح من الصعب الآن أن نرى مثلها مرة أخرى، أوضح مثال على هذا هو إعلان مشروبات كحولية بمساحة تمتد لعدة أمتار على واجهة إحدى البنايات، ربما كان فى وقت من الأوقات متألقا بين «بارات» وسط البلد التى ما زالت بقاياها موجودة إلى الآن، إعلان «كونياك ريمى» الذى يكاد يكون متواريا بعد أن أنهكته أشعة الشمس وأخفت بعض ملامحه مازال مستقرا على جدار بناية مرتفعة فى شارع شريف تلاصق مبنى أثريا يرجع تاريخه لبدايات القرن العشرين هو بنك الإسكندرية. بعض العاملين أسفل البناية لم يدركوا منذ البداية أن العمارة مازالت تحمل إعلانا مثيرا كهذا، أما حارس العمارة التى تحتضن إعلان الكونياك فأنكر وجود الإعلان فى البداية ثم اعترف بوجوده وذكر أنه إعلان منسى لا يهتم به أحد.
حسن العجيل الذى يدير متجرا أسفل البناية مازالت لديه بعض المعلومات حول المكان وإن كان لم يبرر بقاء هذا الإعلان سوى بالإجابة التقليدية التى تُحمـِّل السهو والنسيان وزر بقائه. وكتاجر محترف من تجار وسط البلد بدا مشغولا أكثر بما يمسه بصورة مباشرة «الحس الجمالى مفقود بيننا، حتى الشجرة التى حاولت زرعها أمام المحل بنفسى جاء من انتزعها من مكانها دون استحياء»، يشير بيده إلى المبانى المستقرة أمامه ويكمل «واجهات المبانى ملطخة بألوان مختلفة من الدهان ولم يراعِ أحد الحفاظ على جماليات المبنى سوى مطعم للوجبات السريعة أدرك قيمة المبنى الذى يستضيفه».
لكن ماذا عن إعلان الكونياك العجيب الذى مازال شاهدا على شارع شريف؟ الإجابة: لم يتذكره أحد، كل قصته تتلخص فى أن مالك العمارة القديم «الكونت صعب» الذى كان من كبار الملاك فى العهد الملكى كان رجلا متسامحا مع إعلانات الخمور كحال وسط البلد قديما، خاصة أن هذا الإعلان ليس الوحيد المتبقى فى هذه المنطقة، ورغم أن الكونت صعب ذو الأصل السورى الذى نال تكريما أوروبيا زيَّن اسمه بلقب كونت قد وضعت أملاكه تحت الحراسة بعد قرارات التأميم، وأعيد الإفراج عن هذه العمارة وبيعت فيما بعد، إلا أن الإعلان ظل طوال هذه السنوات مستقرا فى مكانه رغم زهد البعض فى مجرد النظر إليه.
الدكتورة سهير حواس ترى أن هناك وجها آخر أفضل لإعلانات المبانى وتقول«بالنسبة للإعلانات ذات الطابع التاريخى المتسقة مع الطراز المعمارى للمبنى يمكن التعامل معها بصورة جمالية، مثل عمارة عدس فى شارع الألفى وبعض الفنادق التاريخية التى زينت المبنى بكتابة اسمها على الجدران من الخارج، هذه الحالة تمثل إعلانا محببا يمثل جزءا من عمارة المبنى، وليست لوحة طارئة عليه من الخارج أو إعلانا يغطى جدار مبنى بالكامل..!».
إذن، فإعلانات قديمة من نوعية شركة دوش أو المشروبات الروحية تمثل الجانب المظلم من ذاكرة وسط البلد، وقد تطليها فى يوم من الأيام فرشاة عمال بناء أو ترفعها يد مرمم. إلا أن المشهد يختلف قليلا على بعد أمتار من هذه الإعلانات، حيث تستقر صيدلية عتيقة يعود تاريخ إنشائها إلى 1899، تأسست على يد جورج هربرت ستيفنسون الصيدلى البريطانى الذى أقام فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر، وأصبحت صيدليته جزءا من عمارة الشوربجى أو سان ديفيز سابقا.
صابون شفاف بالجليسرين
على واجهة أجزخانة ستيفنسون إعلانات قديمة تعيدنا 60 عاما أو أكثر إلى الوراء، منها إعلان بيرس الصابون الشفاف المحتوى على الجليسرين. وأسفل هذه العبارة صورة طفل صغير يستحم داخل حوض بلاستيكى، وإلى جواره إعلان آخر يظهر فيه رجل ذو ملامح أجنبية يروج لإعلان شفرة حلاقة.. الإعلانات فى مجموعها تبدو طريفة وساذجة إلى حد كبير.
إلا أنها متوائمة مع تاريخية المبنى الذى اكتمل بناؤه فى عام 1911 على يد المعمارى روبرت وليامز، كما أن نفس الإعلانات تعبر عن روح الصيدلية العتيقة. نور السمان ــ المدير الحالى للصيدلية ــ ليس لديه الكثير من المعلومات عن المكان أو الإعلانات بحكم صغر سنه وصغر سن أغلب العاملين هناك.. لخص سبب احتفاظه بهذه الإعلانات فى الواجهة فى جملة واحدة «أنا معجب بطراز الصيدلية العتيق وأردت الاحتفاظ بها هكذا دون تغيير حفاظا على طابعها الخاص».
أجزاخانة ستيفنسون أو الصيدلية البريطانية كانت قد انضمت إلى محال عمارة سان ديفيدز فى أوائل القرن الماضى حين كانت العمارة أقرب إلى المول الحديث ومع الوقت تلاشت قوة ملاكها البريطانيين وانتقلت ملكيتها إلى عائلة الشوربجى ذات الأصول السورية وحملت اسم عمارة الشوربجى. واختفت ذكرى ستيفنسون المالك الأقدم للصيدلية ولم يتبق من سيرته سوى اسمه الذى يزين واجهة الصيدلية، ثم انضمت البناية بأكملها بعد عام 1961 إلى شركة التأمين نتيجة سقوط القطاع الخاص فى مصر الاشتراكية آنذاك. وحتى اليوم لا يبقى من آثار هذه الحقبة سوى ما تعرضه صيدلية ستيفنسون فى واجهاتها من إعلانات غريبة الشكل.
إن تأمل إعلانات تبدو رديئة الشكل للوهلة الأولى قد يحفز الخيال على تخيل الأجواء العامة التى ظهرت فيها هذه الإعلانات، لكن طول التأمل والبحث عن قصصها لا يقدم سببا وجيها لاستمرار بقائها سوى أنه السهو عنها والانشغال بتفاصيل الحياة اليومية، خاصة مع ازدياد صخب منطقة وسط البلد بمشروعات تطوير القاهرة الخديوية وما أشيع مؤخرا عن رأس مال جديد يطمح لحيازة مبانى المنطقة، أما عن الإعلانات التى بقت سهوا على جدران بنايات وسط البلد طوال العقود الماضية. ففى واقع الأمر أنها لم تجد من يتذكرها أو ينفعل لوجودها، عداجاكوب كيروبيان الذى تجاوب مع فكرة البحث فى إعلانات الشوارع القديمة.. وأخرج من درج مكتبه صورة التقطها من شباك الاستوديو الخاص به لإعلانات قديمة من الخمسينيات ملصقة على محول كهرباء، تلاشت سريعا من الوجود لتبقى مخزنة فى صورة بدرج مكتبه فى انتظار من يشتريها.
العلاقة بين الإعلان والمبنى التاريخى ــ حسب حديث الدكتورة سهير حواس ــ اجتازت مرحلة التجميل إلى الخضوع لقانون 144 لعام 2006 المتعلق بالحفاظ على المبانى ذات الطراز المعمارى المتميز، كما تخضع لقانون التنسيق الحضارى رقم 199 لعام 2008 الذى حدد هذه المبانى وكفل لجهاز التنسيق الحضارى المعايير اللازمة للحفاظ على طرزها المعمارية. أما المفارقة أن بعض هذه الإعلانات المسكوت عنها طوال أكثر من نصف القرن قد أصبح من الصعب الآن أن نرى مثلها مرة أخرى، أوضح مثال على هذا هو إعلان مشروبات كحولية بمساحة تمتد لعدة أمتار على واجهة إحدى البنايات، ربما كان فى وقت من الأوقات متألقا بين «بارات» وسط البلد التى ما زالت بقاياها موجودة إلى الآن، إعلان «كونياك ريمى» الذى يكاد يكون متواريا بعد أن أنهكته أشعة الشمس وأخفت بعض ملامحه مازال مستقرا على جدار بناية مرتفعة فى شارع شريف تلاصق مبنى أثريا يرجع تاريخه لبدايات القرن العشرين هو بنك الإسكندرية. بعض العاملين أسفل البناية لم يدركوا منذ البداية أن العمارة مازالت تحمل إعلانا مثيرا كهذا، أما حارس العمارة التى تحتضن إعلان الكونياك فأنكر وجود الإعلان فى البداية ثم اعترف بوجوده وذكر أنه إعلان منسى لا يهتم به أحد.
حسن العجيل الذى يدير متجرا أسفل البناية مازالت لديه بعض المعلومات حول المكان وإن كان لم يبرر بقاء هذا الإعلان سوى بالإجابة التقليدية التى تُحمـِّل السهو والنسيان وزر بقائه. وكتاجر محترف من تجار وسط البلد بدا مشغولا أكثر بما يمسه بصورة مباشرة «الحس الجمالى مفقود بيننا، حتى الشجرة التى حاولت زرعها أمام المحل بنفسى جاء من انتزعها من مكانها دون استحياء»، يشير بيده إلى المبانى المستقرة أمامه ويكمل «واجهات المبانى ملطخة بألوان مختلفة من الدهان ولم يراعِ أحد الحفاظ على جماليات المبنى سوى مطعم للوجبات السريعة أدرك قيمة المبنى الذى يستضيفه».
لكن ماذا عن إعلان الكونياك العجيب الذى مازال شاهدا على شارع شريف؟ الإجابة: لم يتذكره أحد، كل قصته تتلخص فى أن مالك العمارة القديم «الكونت صعب» الذى كان من كبار الملاك فى العهد الملكى كان رجلا متسامحا مع إعلانات الخمور كحال وسط البلد قديما، خاصة أن هذا الإعلان ليس الوحيد المتبقى فى هذه المنطقة، ورغم أن الكونت صعب ذو الأصل السورى الذى نال تكريما أوروبيا زيَّن اسمه بلقب كونت قد وضعت أملاكه تحت الحراسة بعد قرارات التأميم، وأعيد الإفراج عن هذه العمارة وبيعت فيما بعد، إلا أن الإعلان ظل طوال هذه السنوات مستقرا فى مكانه رغم زهد البعض فى مجرد النظر إليه.
الدكتورة سهير حواس ترى أن هناك وجها آخر أفضل لإعلانات المبانى وتقول«بالنسبة للإعلانات ذات الطابع التاريخى المتسقة مع الطراز المعمارى للمبنى يمكن التعامل معها بصورة جمالية، مثل عمارة عدس فى شارع الألفى وبعض الفنادق التاريخية التى زينت المبنى بكتابة اسمها على الجدران من الخارج، هذه الحالة تمثل إعلانا محببا يمثل جزءا من عمارة المبنى، وليست لوحة طارئة عليه من الخارج أو إعلانا يغطى جدار مبنى بالكامل..!».
إذن، فإعلانات قديمة من نوعية شركة دوش أو المشروبات الروحية تمثل الجانب المظلم من ذاكرة وسط البلد، وقد تطليها فى يوم من الأيام فرشاة عمال بناء أو ترفعها يد مرمم. إلا أن المشهد يختلف قليلا على بعد أمتار من هذه الإعلانات، حيث تستقر صيدلية عتيقة يعود تاريخ إنشائها إلى 1899، تأسست على يد جورج هربرت ستيفنسون الصيدلى البريطانى الذى أقام فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر، وأصبحت صيدليته جزءا من عمارة الشوربجى أو سان ديفيز سابقا.
صابون شفاف بالجليسرين
على واجهة أجزخانة ستيفنسون إعلانات قديمة تعيدنا 60 عاما أو أكثر إلى الوراء، منها إعلان بيرس الصابون الشفاف المحتوى على الجليسرين. وأسفل هذه العبارة صورة طفل صغير يستحم داخل حوض بلاستيكى، وإلى جواره إعلان آخر يظهر فيه رجل ذو ملامح أجنبية يروج لإعلان شفرة حلاقة.. الإعلانات فى مجموعها تبدو طريفة وساذجة إلى حد كبير.
إلا أنها متوائمة مع تاريخية المبنى الذى اكتمل بناؤه فى عام 1911 على يد المعمارى روبرت وليامز، كما أن نفس الإعلانات تعبر عن روح الصيدلية العتيقة. نور السمان ــ المدير الحالى للصيدلية ــ ليس لديه الكثير من المعلومات عن المكان أو الإعلانات بحكم صغر سنه وصغر سن أغلب العاملين هناك.. لخص سبب احتفاظه بهذه الإعلانات فى الواجهة فى جملة واحدة «أنا معجب بطراز الصيدلية العتيق وأردت الاحتفاظ بها هكذا دون تغيير حفاظا على طابعها الخاص».
أجزاخانة ستيفنسون أو الصيدلية البريطانية كانت قد انضمت إلى محال عمارة سان ديفيدز فى أوائل القرن الماضى حين كانت العمارة أقرب إلى المول الحديث ومع الوقت تلاشت قوة ملاكها البريطانيين وانتقلت ملكيتها إلى عائلة الشوربجى ذات الأصول السورية وحملت اسم عمارة الشوربجى. واختفت ذكرى ستيفنسون المالك الأقدم للصيدلية ولم يتبق من سيرته سوى اسمه الذى يزين واجهة الصيدلية، ثم انضمت البناية بأكملها بعد عام 1961 إلى شركة التأمين نتيجة سقوط القطاع الخاص فى مصر الاشتراكية آنذاك. وحتى اليوم لا يبقى من آثار هذه الحقبة سوى ما تعرضه صيدلية ستيفنسون فى واجهاتها من إعلانات غريبة الشكل.
إن تأمل إعلانات تبدو رديئة الشكل للوهلة الأولى قد يحفز الخيال على تخيل الأجواء العامة التى ظهرت فيها هذه الإعلانات، لكن طول التأمل والبحث عن قصصها لا يقدم سببا وجيها لاستمرار بقائها سوى أنه السهو عنها والانشغال بتفاصيل الحياة اليومية، خاصة مع ازدياد صخب منطقة وسط البلد بمشروعات تطوير القاهرة الخديوية وما أشيع مؤخرا عن رأس مال جديد يطمح لحيازة مبانى المنطقة، أما عن الإعلانات التى بقت سهوا على جدران بنايات وسط البلد طوال العقود الماضية. ففى واقع الأمر أنها لم تجد من يتذكرها أو ينفعل لوجودها، عدا
No comments:
Post a Comment