Sunday, June 28, 2009

الدوار .. آخر قلاع الريف فى القاهرة


فى ميت عقبة، على تخوم المهندسين، ظل دوار العمدة ينازع كى يستمر فى التواجد داخل العاصمة، مجرد مقر للاحتفاليات وفض المنازعات.

الاحد 28 يونيو 2009
عبدالرحمن مصطفى
أقصى ما يتمناه الحاج أنور الشاهد الآن هو جلسة صافية ينصت فيها بخشوع إلى تلاوة إذاعة القرآن الكريم قبل آذان المغرب، وتكتمل سعادته مع كوب شاى صغير وجلسة مريحة على أريكة ريفية تتسع له ولضيوفه ولأبنائه من حوله. لم تتحقق أمنية الحاج أنور الذى تجاوز الثمانين عاما إلا فى «دوار عائلة الشاهد» بعيدا عن مقاهى حى ميت عقبة المزدحمة بزبائنها. فاختار جلسته المفضلة فى دوار العائلة حيث ذكرى الماضى الذى لن يتكرر.
فى تلك المساحة الجغرافية من القاهرة لا يتوقع الجالس فى أحد مطاعم ميدان لبنان الراقية بحى المهندسين أن يجد خلفه بعدة أمتار روح أخرى لاتزال تسكن حى ميت عقبة، وتحديدا فى «الدوار» الذى لايزال يجد من يدافع عنه ويحافظ عليه كدليل على أصل ميت عقبة كقرية ريفية اندمجت الآن وسط منطقة المهندسين واخترقها محور 26 يوليو بعرباته الطائشة التى قد لا يجد ركابها الفرصة لاكتشاف بقايا الدوار هناك.
السير بمحاذاة محور 26 يوليو قد يخدع المارة للوهلة الأولى ويصور لهم أنهم أمام منطقة شعبية تقليدية مقحمة بين منطقة المهندسين والعجوزة. شوارعها الضيقة تتحول فى بعض اللحظات إلى ممرات ترفض استقبال السيارات ولا تسمح إلا بعبور المشاة، تلك ليست قواعد العشوائيات بل هى قواعد القرية الريفية القديمة حيث البيوت المتجاورة والشوارع المسماة بأسماء العائلات القاطنة بها. لم يكن الوضع على هذه الشاكلة فى النصف الأول من القرن الماضى حيث كانت الفراغات أكثر اتساعا مع وجود الأراضى الزراعية ذات المساحات الكبيرة. وكالعادة فرض التقاء الأرض الزراعية بالفلاحين على القرية أن تنشئ عائلاتها الكبيرة «دوارا» لإدارة شئونها، خصوصا إن كان منصب العمدة فى داخل هذه العائلة.
على حدود ميت عقبة الخارجية تشير لافتة إلى «درب الشاهد»، وهى إحدى العائلات القديمة فى ميت عقبة منذ أن كانت قرية.. الحاج عبدالحميد عبدالمجيد الشاهد الذى قدمناه فى البداية على أنه أنور الشاهد حسبما ينادونه هنا هو أحد أفراد هذه العائلة، ما زال متمسكا حتى الآن بالتواجد فى «الدوار» الباقى أمام منزله حيث يقضى الكثير من وقته وسط آخر ما تبقى من الزمن الريفى.
شحن بطاريات الذاكرة وبدا متحمسا وهو يروى عن «الدوار» والزمن الماضى: «كان الدوار من أهم الأماكن فى ميت عقبة حيث يجلس العمدة وكبراء العائلة لفض المنازعات وتلقى الزيارات وضبط العلاقات بين أصحاب الأراضى والفلاحين.. أنا هنا أتحدث عن ما قبل الخمسينات حين كانت هناك أراضى زراعية فى هذه الناحية تفرض شكلا خاصا على علاقات الناس وكان للدوار مكانته آنذاك».
فى تلك الفترة التى يحكى عنها الحاج أنور كانت ملامح الدوار مختلفة تماما حين كان أقرب إلى مقر إدارى يترأسه العمدة يضم غرفتين كبيرتين أمامهما مساحة رحبة لاستقبال الزوار، أما الآن فقد تغير الشكل واتخذ طابعا فلكلوريا مع غياب أهداف وجوده الأولى. طرأت كذلك بعض التعديلات الهندسية حولت الغرفتين إلى صالة فسيحة أمامها حديقة ومتكأ للضيوف إلى جانب غرف خلفية تستعمل كبوفيه فى المناسبات.
حمدى عباس حلمى الشاهد ــ أحد أفراد العائلة ــ ما زال يتذكر لحظة تحول الملامح الخارجية للدوار إلى شكله الحالى بعد أن تغير دوره القديم من مقر للعمدة إلى مكان تجمع عائلى ودار للمناسبات، ويقول: «والدى كان عمدة البلد فى أوائل الخمسينيات كان يحل المشكلات ويفض المنازعات فى هذا الدوار بشكله القديم، ومع السبعينيات بدأ الدوار يتوارى عن الأنظار واختفى دوره الاجتماعى إلى حد كبير حتى قررنا فى الثمانينيات إعادة تجديده ليكون مقرا لتجمع العائلة إلى جانب استخدامه فى العزاء وعقد القران لغير القادرين».
هكذا تحول «الدوار» إلى مقر احتفاليات مع غياب العمدة عن ميت عقبة التى انخرطت منذ الستينات فى أجواء المدينة وانصهرت بأكملها داخل العاصمة.

الشاهد كمان وكمان

فى الناحية الأخرى من ميت عقبة بعيدا عن مقر «الدوار» القديم يعود اسم الشاهد مرة أخرى للظهور فى أسماء الشوارع الفرعية.. أحدها شارع عفيفى الشاهد وهو الآن شيخ فى الخامسة والثمانين من عمره مازال يتقاسم مع الحاج أنور ذكرياته عن زمن «الدوار». شكا من سقوط هيبة الكبير على عكس ما كان فى الماضى، قائلا: «كان أصحاب الأراضى الزراعية لا يتعدون الأربعة والثلاثين فردا هم من كان باستطاعتهم انتخاب العمدة القابع فى هذا الدوار، وكان هذا العدد المحدود يعبر وقتها عن حالة المجتمع حين كان هناك تقدير للكبير وصاحب الأرض أما الآن فأصبح الجميع متساويا واختفى الصوت القادر على فض المنازعات».
اختار الحاج عفيفى الشاهد منذ حوالى ستة عقود أن يسكن بعيدا عن الدوار واتجه ناحية أرض كان يزرعها بيديه تنتج البرسيم والذرة والقمح امتدت حتى شارع السودان الحالى. فى هذه الفترة ظهرت أغنية شهيرة فور وقوع حركة الجيش عام 1952، كان عنوانها «ع الدوار ع الدوار. راديو بلدنا فيه أخبار».
هذه الأغنية كانت أولى أغنيات الثورة والمفارقة أنها تغنت باسم الدوار الذى شكلت الثورة فيما بعد دوره ونفوذه داخل القرية عقب إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية فى مصر كلها آنذاك.. لكن دوار ميت عقبة لم يتخل عن مكانته فورا إلا بعد أن تلاشى منصب العمودية واتخاذ القرية الطابع الحضرى فى الستينيات.
يكمل أحمد عفيفى الشاهد النقطة التى توقف عندها والده «اليوم ربما يكون من البديهى أن يرث نائب الشعب أو المسئول مكانة العمدة القديمة إلا أن نواب الشعب حاليا لم يملأوا مكانة العمدة الذى كان متواجدا بين الناس. وذلك على الرغم من أن نفس الدوار الحالى لايزال يستضيف النواب والمرشحين للمناصب النيابية فى المناسبات إلا أنه لم يعد باستطاعتهم تأكيد حضورهم فى حى متخم بالسكان كهذا الحى».
ميت عقبة التى خلعت ثوبها الريفى منذ عقود وانضمت فى العام 1997 إلى حى العجوزة لم يكن الدوار فقط هو الدلالة على جذورها الريفية فعلى أطرافها شارع يحمل اسم «داير الناحية»، وهو اسم مألوف فى تخطيط القرية المصرية التى يمثل «داير الناحية» فيها ما يوازى الطريق الدائرى حول حقول القرية وتتفرع منه طرق فرعية إلى مساكن الفلاحين وأصحاب الأراضى، ومن داير الناحية توصل الطرق دائما إلى «الدوار» الذى يتخذ موقعه الاستراتيجى فى تخطيط القرى.
على بعد أمتار من «دوار الشاهد».. تبدأ أسماء عائلة دعبس فى الظهور على لافتات الشوارع مثل شارع «بين البلدين» الذى تحول إلى شارع «الشهيد أركان حرب نصر دعبس» ثم شارع آخر يحمل عنوانا أكثر مباشرة هو شارع «العمدة دعبس». هناك يقع دوار عائلة دعبس إحدى العائلات التى تولت مقاليد العمودية قديما.

بدون «سلاحليك»

لا تزال الأجواء القديمة تحيط بالدوار، أمامه مساحة رحبة انفرد بها عن بقية الشوارع الضيقة. تلك المساحة أعطته بعض التميز فى الحى وأمام الدوار الذى لم يعد يفتح الآن إلا فى المناسبات يقع مكتب أحمد إلياس دعبس، من كبار أفراد العائلة التى تجمعها علاقات نسب بعائلة الشاهد، ومن نافذة مكتبه يطل على الدوار مستعيدا الذكريات. لايزال يحتفظ بالصور التى كانت معلقة فى الماضى على جدران الدوار القديم لمصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد حين كانت الأسرة تدعم الوفد قبل الثورة.
يختلف دوار دعبس الحالى عن حالته القديمة التى يصفها كبار العائلة حين كان مبنى حجرى تتخلله العروق الخشبية.
فى داخل الدوار يعرض أحمد إلياس دعبس وجها آخر للدوار كمقر إدارة وحكم «لم يكن الدوار مجلس عائلة أو واجهة اجتماعية بل كانت تفد إليه إخطارات التجنيد وإنذارات المحاكم كما كان له دور مهم يكاد يكون قد تلاشى من حياتنا الآن وهو الضبط الاجتماعى» يرى أحمد إلياس أن غياب الدوار يمكن أن يعوضه دور الأفراد وهو ما يحاول صنعه فى مكتبه بين أبناء الحى بصورة مصغرة. هنا يتدخل ابن العم أحمد عبدالمحسن دعبس برأيه: «فى الماضى كانت سلطة الدوار تتجاوز النصح والإرشاد إلى المشاركة فى العقوبة وهو ما لا يستطيع أحد ممارسته الآن ففى نفس هذا الدوار كان هناك جزء ملحق اسمه السلاحليك يحتجز فيه الأشقياء قبل عرضهم على الشرطة بهدف حل المشكلات داخل نطاق القرية أولا على يد العمدة».
ومثلما كان الحال مع دوار عائلة الشاهد أخذ دوار عائلة دعبس دورته التقليدية مع التبدل الذى أصاب ميت عقبة فى تحولها من الطابع الريفى إلى جزء من العاصمة، ومع غياب نظام العمودية استمر الدوار يقاوم حتى أعيد بناؤه من جديد فى الثمانينيات بشكله الحالى الذى حوله إلى مدخل بناية يعلوها طابقان سكنيان. لكن فكرة الدوار نفسها لاتزال عالقة فى أذهان بعض أهالى ميت عقبة.. على سبيل المثال اختار جمال عبدالحكم الشاهد الذى تجمعه قرابة بكل من عائلتى الشاهد ودعبس أن ينشئ فى العام 2005 دوارا خاصا تحت اسم «دوار أولاد عبدالحكم الشاهد»، وهى مفارقة تعارض التصور التقليدى عن تدهور فكرة الدوار فى ميت عقبة. لكن هناك غرضا أعاد فكرة الدوار مرة أخرى ونحن على مشارف القرن الحادى والعشرين. فقد كان هدف جمال الشاهد هو إحياء استخدام المكان فى حشد الأصوات الانتخابية لذا رأى كعضو فى المجلس المحلى وعضو الحزب الوطنى الديمقراطى أن يتخذ مقرا خاصا به فى دواره الجديد يرسخ به وجود الحزب بين الناس، وهو يوضح: «كان المكان متوافرا بالفعل وفكرت أن أحوله إلى دوار ليكون قناة مفتوحة بين الدائرة ونائب الحزب والمجلس المحلى».
وبعيدا عن هذا فقد أوضح حديث عائلة دعبس عن الدوار أن هناك دور اجتماعى ما زال ينشط من حين إلى حين، فإلى جانب توفير المكان لغير القادرين من أجل إقامة العزاء فهناك دور يعتمد على شباب العائلة الذين يجتمعون أسبوعيا أمام الدوار. وينشط هؤلاء ــ حسبما ذكر هشام دعب ــ خلال شهر رمضان من أجل إعداد الحقائب الرمضانية للفقراء، فالدوار يكون مفتوحا بصورة يومية. واستضاف الدوار أيضا حملة تبرع بالدم أحيت بعض النشاط الاجتماعى المحبب الذى أعاد للمكان بعض بهائه.

الخط الأحمر

تحولت القرية إلى حى شعبى مكتظ بالسكان تجاوز عدد سكانه فى ميت عقبة وجزيرة ميت عقبة حوالى 130 ألف نسمة حسب أرقام الجهاز المركزى للإحصاء فى 2006. لا يمكن إذن للدوار سوى أن يبقى رمزا فى مكان مزدحم توافدت عليه الهجرات طوال العقود الماضية. ففى دوار عائلة الشاهد أكد عفيفى الشاهد أن دور الدوار القديم قد تلاشى تقريبا منذ السبعينيات مع التضخم السكانى الذى طرأ على المنطقة، أما فى دوار عائلة دعبس فقد اختلف أولاد العم فى تاريخ محدد لانسحاب الدوار من مكانته القديمة، أحدهم قال: 1967، وآخر اقترح فترة السبعينيات مع تدفق الهجرة، وثالث رأى أنها الثمانينيات مع ارتفاع معدلات الجريمة وغياب الرقابة. لم يكن هدفنا وقتها البحث عن تاريخ محدد لانهيار الدوار رمز السلطة الموازية للسلطة الحكومية التقليدية، بل كنا نبحث عن التاريخ الذى ابتلعت فيه العاصمة قرية ميت عقبة بأكملها. قال محمد الحفناوى دعبس ــ أكبر الجالسين فى دوار عائلة دعبس ــ: «غياب الدوار ليس مسئولا عن ارتفاع معدلات الجريمة أو ما يحدث أحيانا من بلطجة وعنف، لكن السكن العشوائى والتضخم السكانى هو الذى غير وجه المنطقة». يستدرك هشام دعبس وهو يشير إلى المساحة أمام الدوار: «هذه المنطقة بمثابة منطقة محرمة تمنع فيها أى تجاوزات». كانت تلك الإشارات من عائلة دعبس تتعامل مع الدوار كخط أحمر غير مسموح بالتعدى على حدوده.. وهو الوضع الذى اختلف تماما عن ذكرى الدوار القديم المستقر الهادئ، وهى الحالة التى عبر عنها أنور الشاهد الذى استقبلنى أول مرة فى دوار عائلة الشاهد وتحدث بمرارة رجل ثمانينى رأى تبدل الحال واختفاء الأحباب وجعلته يذكر عبارة نسبها إلى حسان اليمانى أحد أبطال سيرة الزير سالم الشعبية حين قال: «زمن الأرض الخرس وابن الهلف»، أراد الحاج أنور بترديد نفس العبارة أن يصف ما يراه الآن بعد تلاشى الأرض الزراعية تماما وانعدام القدرة على إحيائها إلى جانب غياب هيبة الكبير.

No comments:

Post a Comment