لن نسكت عن الكلام المباح
داليا شمس
لم يحدث كل ذلك في قديم الزمان و لا في سالف العصر و الأوان، و لكن على مدار ثلاث سنوات مضت بسرعة البرق، و أحيانا بتكاسل شديد و كأن اليوم دهر متثاقل و كئيب.. فالموضوعات تفرض نفسها على الصحفي تبعا للأحداث، و نحن منذ البداية اخترنا أن نحكي ليالي و نهارات البلاد، دون أن نسكت أبدا عن الكلام المباح و غير المباح، و انحزنا في الأغلب الأعم لمن لا صوت لهم... لكن الصامتين في المجتمع أي مجتمع، و إن بدوا كذلك لا يبقون صامتين على الدوام... فكما يقول عالم الاجتماع الجليل الراحل- الدكتور سيد عويس- فإن صوتهم يجلجل و يرتفع إلى الآفاق عند الصلاة، و عند الدعاء، و في حلقات الذكر و في رحاب المساجد و الكنائس و المعابد أو في خارجها. و هو يجلجل و يرتفع إلى الآفاق في ملعب الكرة، و في الملاهي و البارات، و في أثناء الاستماع للغناء، و خلال المباريات في النكت ذات المضمون السياسي أو اجتماعي، و أمام الموت، و عن طريق إرسال الرسائل إلى الأموات، و حتى عن طريق الكتابة أو الرسم في داخل دورات المياه!
حاولنا على مدار الألف عدد السابقين متابعة حياة كل هؤلاء بحلوها و مرها، من خلال موضوعات تضمنت أحيانا عناصر ثقافية غير مادية، اجتهدنا في التعبير عنها حتى جاءت اللحظات الحاسمة في يناير الماضي، إذ تعالت الأصوات و خرج هتاف الصامتين إلى العلن و لم يبق مكتوما في الصدور و الحناجر. الإعلام الشعبي و صحافة المواطن طغيا على كل ما هو رسمي، و كان ذلك متماشيا مع نهج "ألوان الحياة" التي انتمى العديد من صحافييها المتتالين إلى عالم المدونين الشباب، فكان من السهل عليهم ثبر أغوار فضاءات الانترنت الرحبة التي تتسع للملايين. ظهر نجوم و قادة رأي جدد، فسلطنا الضوء عليهم مع التعرض لبعض أنماط تفكيرهم، في سعي حثيث لعكس المناخ الاجتماعي و الثقافي، مع مراعاة الدور المركزي للقاهرة- العاصمة ذات الحضور الطاغي و المخيف- مدينة الألف الوجه التي تشي بأسرار سكانها الذين جاءوا من كل حدب و صوب للنهل من خيراتها أو العيش في الملكوت... تشابكت الحكايات و فيما هو آت نروي بعض ما حدث خلال ألف ليلة و عدد، مستلهمين في ذلك كلام شهرزاد عندما توجهت لأبيها قائلة:
قل لمن يحمل هما إن هما لا يدوم
مثل ما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم
داليا شمس
لم يحدث كل ذلك في قديم الزمان و لا في سالف العصر و الأوان، و لكن على مدار ثلاث سنوات مضت بسرعة البرق، و أحيانا بتكاسل شديد و كأن اليوم دهر متثاقل و كئيب.. فالموضوعات تفرض نفسها على الصحفي تبعا للأحداث، و نحن منذ البداية اخترنا أن نحكي ليالي و نهارات البلاد، دون أن نسكت أبدا عن الكلام المباح و غير المباح، و انحزنا في الأغلب الأعم لمن لا صوت لهم... لكن الصامتين في المجتمع أي مجتمع، و إن بدوا كذلك لا يبقون صامتين على الدوام... فكما يقول عالم الاجتماع الجليل الراحل- الدكتور سيد عويس- فإن صوتهم يجلجل و يرتفع إلى الآفاق عند الصلاة، و عند الدعاء، و في حلقات الذكر و في رحاب المساجد و الكنائس و المعابد أو في خارجها. و هو يجلجل و يرتفع إلى الآفاق في ملعب الكرة، و في الملاهي و البارات، و في أثناء الاستماع للغناء، و خلال المباريات في النكت ذات المضمون السياسي أو اجتماعي، و أمام الموت، و عن طريق إرسال الرسائل إلى الأموات، و حتى عن طريق الكتابة أو الرسم في داخل دورات المياه!
حاولنا على مدار الألف عدد السابقين متابعة حياة كل هؤلاء بحلوها و مرها، من خلال موضوعات تضمنت أحيانا عناصر ثقافية غير مادية، اجتهدنا في التعبير عنها حتى جاءت اللحظات الحاسمة في يناير الماضي، إذ تعالت الأصوات و خرج هتاف الصامتين إلى العلن و لم يبق مكتوما في الصدور و الحناجر. الإعلام الشعبي و صحافة المواطن طغيا على كل ما هو رسمي، و كان ذلك متماشيا مع نهج "ألوان الحياة" التي انتمى العديد من صحافييها المتتالين إلى عالم المدونين الشباب، فكان من السهل عليهم ثبر أغوار فضاءات الانترنت الرحبة التي تتسع للملايين. ظهر نجوم و قادة رأي جدد، فسلطنا الضوء عليهم مع التعرض لبعض أنماط تفكيرهم، في سعي حثيث لعكس المناخ الاجتماعي و الثقافي، مع مراعاة الدور المركزي للقاهرة- العاصمة ذات الحضور الطاغي و المخيف- مدينة الألف الوجه التي تشي بأسرار سكانها الذين جاءوا من كل حدب و صوب للنهل من خيراتها أو العيش في الملكوت... تشابكت الحكايات و فيما هو آت نروي بعض ما حدث خلال ألف ليلة و عدد، مستلهمين في ذلك كلام شهرزاد عندما توجهت لأبيها قائلة:
قل لمن يحمل هما إن هما لا يدوم
مثل ما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم
و لما كان العدد الألف...
ليالي القاهرة و ربوع مصر.. حكايات من واقع المحروسة
ليالي القاهرة و ربوع مصر.. حكايات من واقع المحروسة
عبدالرحمن مصطفى
حكاية الشوارع التي تتحرك
حكاية الشوارع التي تتحرك
لو حكت شهرزاد عن مارد يحرك الشوارع ويقلبها رأسا على عقب، لتفهم شهريار حكايتها ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، لكن شوارعنا كانت تتحرك في الألف ليلة الماضية منذ أن بدأت "الشروق" إصدارها الأول، دون مارد أو جني خفي، وما زالت الأحداث تحرك المسيرات والاحتجاجات كل حين. أصبح اليوم لدى الجميع حكاية عن شوارع تحركت بعد سكون، كثيرون في منطقة وسط القاهرة حيث قلب الأحداث لم يكن لديهم ذاكرة أو ذكرى عن المكان الذي يقيمون فيه. في صفحة "سقط سهوا من ذاكرة الشارع" المنشورة في صيف 2009 كان السؤال محرجا عن إعلان قديم نادر على جدار عمارة في شارع شريف، لـ "كونياك ريمي".. كيف كانت شوارع المدينة أكثر تسامحا مع إعلان كهذا، ولماذا احتفظت به إلى الآن؟ وقتها لم يتذكر أو يهتم الكثيرون بالأمر، وحين واجه بواب إحدى العمارات المطلة على ميدان التحرير في العام 2010 سؤالا آخر عن "مقهى إيزافيتش" الذي كان مطلا على ميدان التحرير.. لم يجد إجابة، لأنه كان وافدا حديثا على المدينة ولم يكن لديه تفاصيل كثيرة عن منطقة "مثلث كنتاكي" في ميدان التحرير. أما بعد الثورة، فأصبح لدى الجميع حكايات عن اعتصامات الميدان ولجان الأمن الشعبية والصدامات مع قوات الجيش والشرطة... كتب هؤلاء الصامتين في عامي 2009 و 2010 تاريخا جديدا لوسط البلد والتحرير، أما بقية شوارع العاصمة فكانت تتحرك في فوضى صامتة أو كما قال لنا أحدهم في تحقيق"بلطجية ويا ليتنا مثلهم" المنشور في نهاية 2009 فإنه "إذا كان سلوك البلطجة يقضي المصلحة لأن القانون لن يحققها.. فأهلا بالبلطجة".
شوارع المدينة التي تحركت في جمعة الغضب، أعطت مساحة لكل من كان يتحرك على الهامش ليصبح سيدا للطريق، أما قبل ذلك فلم يتسيد الموقف سوى القوة. أو حسب تعبير سيد سائق الميكروباص في تحقيق "يوميات المخالفات والكارتة" المنشور في صيف 2010: "محدش عارف الصح من الغلط.. احنا بنعك". بعدها بعام كانت النبرة مختلفة في أعقاب الثورة، إذ انتفض سائقو الميكروباص في موقف عبود ضد تجاوزات جامعي الكارتة في الموقف، وفي كرداسة احتج السائقون على عودة قسم الشرطة المحترق إلى العمل خشية عودة الظلم مرة أخرى، على حد وصفهم. وكأنها محاولات لتأكيد وجودهم في الشارع، لذا لم تكن صدفة أن يضم العدد الأول من جريدة الشروق تحقيقا عن "التوك توك" أكبر المتهمين بإثارة الفوضى في شوارع القاهرة وقتها، ليبرز قوة المهمشين في إثارة الجدل .
وعلى مدار ألف ليلة و ألف عدد من إصدار "الشروق" كانت القاهرة مستمرة في ابتلاع الفرص وحصد الخسائر، واستمر تهميش الأقاليم وهو ما انعكس في صراع بين ثقافات الأقاليم وسطوة العاصمة حتى داخل القاهرة نفسها، ما استدعى ضرورة تتبع هذا الصراع. ففي صفحة "القاهرة الصعيدية" المنشورة في صيف 2009 كانت عزبة الصعايدة في إمبابة هي النموذج، وهناك لم تكن العشوائية نتيجة فقر أو جهل، بل نتيجة تشتت الهوية، دون خضوع لقواعد ريفية أصيلة في البناء والمعيشة، ولا خضوع لنظام المدينة الصارم، وهو ما كان واضحا في تحقيق آخر بعنوان "ملوك العشوائيات" في عزبة الهجانة، حيث تكونت زعامات للمهاجرين حديثا إلى القاهرة، في وضع مختلف تماما عن بيئتهم الأصلية و أكثر اختلافا عن شكل العلاقات التقليدية في المدن الكبرى، في هذا الملف عن ملامح مدينة القاهرة كانت التفاصيل تجعلها أشبه بعدة مدن متشابكة.
أما خارج العاصمة فلم تختلف الملامح كثيرا، ففي مدينة السويس التقينا العام الماضي مع الكابتن غزالي أحد قادة المقاومة، وختم حديثه قائلا: " أنا هنا في مكاني لن أرحل، وأراهن على أن مصر ستكون أفضل في المستقبل". لم يحتاج الكابتن غزالي للانتظار طويلا، إذ كانت السويس هي الأكثر حماسا في أحداث الثورة، والأسباب لم تكن خفية.. مدينة ذات تاريخ نضالي، أدارها الأهالي مع القوات المسلحة في فترة الحرب، وتعاني من تدهور اقتصادي، وحين قامت ثورة 25 يناير صنع الجيل الحالي أسطورته، وأصبحت أسماء شهداء الثورة مجاورة لأسماء شهداء المقاومة في المدينة. رسم أحد المتظاهرين في الأيام الأولى للثورة نجمة داوود على حافلة شرطة محترقة، من أجل أن يدمج أسطورة الثورة مع أسطورة المقاومة القديمة. فهل يكرر هذا الجيل السويسي ما فعله آباؤهم حين انسحبوا واكتفوا بمراقبة الأحداث ؟
كانت الزيارات بعيدا عن القاهرة تكشف عن تعايش مع الإحساس بالظلم، وكانت أسوان إحدى المدن التي توضح هذه الحالة، وفي صيف العام الماضي سجل الشاب محمد الحلفاوي، عضو المجلس المحلي عن قرية "نجع المحطة" النوبية، تعليقا على ذلك في صفحة "أسوان .. مدينة تتحدى الصيف"، وقال: "هناك أشياء بسيطة نبذلها مثل طلب أعمدة إنارة للقرية، لكن هناك مشاكل أكبر مثل عدم تملك سكان القرية لأراضيهم التي عاشوا عليها منذ تهجيرهم نتيجة إنشاء خزان أسوان وتعليته"، كانت الاحتجاجات تتم ويتم إجهاضها سريعا، لكنها لم تصل المدى الذي وصلت إليه بعد الثورة، في احتجاجات هي الأكبر من نوعها ضد محافظ أسوان، طالب فيها أهل النوبة بحقوقهم التاريخية.
هذه الأزمة بين المركز والأطراف، كانت تعيشها القاهرة في الداخل، حتى مع أحيائها القديمة، وفي رحلتنا العام الماضي إلى مدينة "هرم سيتي" ناحية مدينة السادس من أكتوبر كان هناك "عالمين في مدينة واحدة"، إذ وصل الأمر بأبناء الطبقة الوسطي الطامحين أن طالبوا بإقامة سور عازل بينهم وبين من تم تهجيرهم إلى المدينة من متضرري مناطق الدويقة وإسطبل عنتر وعزبة خير الله، كانت وجهة نظر أحدهم أنه لا يرضى أن يدخل ابنه المدرسة الحكومية الموجودة في المدينة كي يزامل أحد أبناء العشوائيات.
و على الجانب الآخر، كان أبناء العشوائيات في حنين إلى مناطقهم الأصلية، ومحاولة للتعايش مع الواقع، دون أن يتخلوا عن حس الفوضى والعنف في معيشتهم، وكانت هذه الحالة صورة مصغرة لما يحدث في مصر. وحين تحركت الجماهير في الشارع أثناء الثورة، كانت هناك محاولات من المهمشين لكسر حاجز العزل المفروض عليهم، حتى في عمليات النهب التي جرت يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يناير الماضي كانت إشارة وعلامة على رغبة في ملكية الشارع، حتى الموتوسيكلات الصينية التي تسير في الشارع إلى اليوم دون لوحات مرورية تحاول التأكيد على هذا المعنى، وليس أدل على ذلك من مشهد اخترق فيه التوك توك ميدان التحرير يوم 11 فبراير للاحتفال بتنحي مبارك، وكأنه يوصل رسالة أنه يمكنه أن يكون شريكا في تحريك الشارع والإحساس بالأمان مع الجماهير بعيدا عن السلطات.
حكاية شعب يغلي
في العام 2009 كانت تكفي مطالعة صفحة "كلنا كده عاوزين صورة" حتى يشعر القارئ بضبابية مفهوم الوطنية لدى بعض الشباب، أحدهم قال عن الوطنية: " لا أجد تفسيرا لهذا الأمر سوى أنني ولدت فوجدت نفسي هنا"! وعلى مدار ألف ليلة مضت لم تكن هناك استثناءات كثيرة في الإحساس بالانتماء والأمل في الوطن، أحد من كانت عباراتهم مفعمة بالحماس هو الدكتور خالد فهمي، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية و العائد من نيويورك، فقد ذكر ذلك قبل 25 يناير الماضي بأسابيع قليلة في تحقيق بعنوان"أمل .. فعودة .. فتعايش": "جيل الشباب الجديد رائع، يسعى للتغيير وقلب ما هو سائد من خلال أفكار جذابة ومبتكرة، بعيدا عن الخطاب الرسمي سواء من خلال الأعمال الأدبية والفنية أو من خلال مجتمع المدونين والفيس بوك أو الصحافة الجديدة المستقلة أو المظاهرات والاعتصام" . هذا ما كان يحدث على مدار الألف ليلة الماضية، وقرأه خالد فهمي بحسه التاريخي.. إذ لم تعد عبارات الوطنية المستهلكة فيصلا في تحقيق أي هدف، كانت هناك معركة حول ملكية الشارع ومحاولات إثبات الحقوق في الدولة، وما زالت المعركة مستمرة إلى الآن رغم التشنيع على المظاهرات والاعتصامات "الفئوية". لكن على أرض الواقع فالأمر أقدم من ذلك.. في العام 2010 وتحديدا في الإسكندرية كانت هناك احتجاجات لعمال الترام، وكانوا وقتها يكررون ما فعلوه من قبل، قمنا برحلة معهم لفهم ما يحدث في عالم الترام السكندري، لكن لم يشعر أحد بهم من المسئولين، وحين دارت أحداث الثورة وقامت الحرب حول ملكية الشارع لفرض مطالب المواطنين انخرط بعضهم في الأحداث، و أثبت التحرك في الشارع أن بإمكانه إسقاط رئيس، ازدادت الاحتجاجات العمالية والمهنية على أمل تحقيق ما لم يتحقق قبل الثورة.
وعلى مدار الأعوام الماضية كانت حالة الغليان تدفع إلى أن يسقط أفراد الشعب غضبهم على بعضهم البعض، وفي صفحة عن "التعذيب الشعبي" نشرت العام ماضي برز كيف كان الشعب يمارس العنف ضد نفسه بعيدا عن الشرطة، على أمل تحقيق العدالة، ولم تكن أحداث الثورة إلا فترة هدنة يواجه فيها الشعب من تسبب في غضبه، وبعد تلك المواجهة أصيب البعض بهزة عنيفة، وكانت الأزمة أعنف مع الشباب ذو الحس المثالي الرومانسي الذي يخشى العودة إلى ما كان، في مقابل آخرين يطالبون بتطرف إلى العودة إلى ما اعتادوا عليه، وبدأ التضارب بين تعبيري "التغيير" و"الاستقرار". أحمد جمال، منسق شباب الاستقرار والمؤيد لفترة مبارك، قال لنا في إبريل الماضي: "إذا أردنا إشاعة مناخ الاستقرار في مصر فليس هناك حل سوى أمرين إما حكم رجال الدين مثل الشيخ محمد حسان أو محمد حسين يعقوب أو الحكم العسكري لأحد رجال القوات المسلحة".
هذه النبرة التي استخدمها أحمد جمال لم تراعي الاهتمام العالمي بثورة 25 يناير أو ترقب ما ستسفر عنه من تغيير. في حين أن صورتنا كانت أسوأ بكثير في الفترة الماضية، وهذا ما عبر عنه "ألبان" الشاب الفرنسي المقيم في القاهرة من خلال تحقيق حول مغامرة "عبور الشارع في مصر" ، ليكشف لنا زاوية لا نراها بحكم الاعتياد، وهي أننا نعيش في سيرك يومي، وأننا لسنا أحرارا في الشارع.
على مدار ألف ليلة و عدد من "الشروق" كنا كمصريين نتعايش مع الوضع القائم، فهل سنعود و نستسلم من جديد أم سيستمر التغيير؟ حتى اليوم ما زالت الجدران تحمل عبارات ثورية بشكل صريح لم نره إلا بعد 25 يناير... وفي العام الماضي كنا نبحث عن "هتاف الصامتين" بين العبارات والملصقات المكتوبة في شوارعنا وعلى خلفيات السيارات، كان الجديد آنذاك هو نبرة العنف واليأس التي زادت حسبما ذكر صناع تلك الملصقات، فليس أدل على الكفر بالإنسان وقيمه العليا من عبارات مثل: "محدش فاهم حاجة"، أو "مفيش حد صالح.. كله بتاع مصالح". وهي عبارات كتبت على خلفيات السيارات النقل والميكروباص والتوك توك. فكانت المفاجأة هذا العام في عبارات أخرى مثل "سلمية .. سلمية"، "مسلم.. مسيحي .. إيد واحدة". لكن هذه العبارات لم تصل بعد إلى سائقي الميكروباص أو إلى جدران الحواري، بل ضاقت الصدور مؤخرا بالكتابة الثورية على الجدران، ووصل الأمر أحيانا إلى حد الاعتقال...
حكاية النجوم الجدد
وعلى مدار الأعوام الماضية كانت حالة الغليان تدفع إلى أن يسقط أفراد الشعب غضبهم على بعضهم البعض، وفي صفحة عن "التعذيب الشعبي" نشرت العام ماضي برز كيف كان الشعب يمارس العنف ضد نفسه بعيدا عن الشرطة، على أمل تحقيق العدالة، ولم تكن أحداث الثورة إلا فترة هدنة يواجه فيها الشعب من تسبب في غضبه، وبعد تلك المواجهة أصيب البعض بهزة عنيفة، وكانت الأزمة أعنف مع الشباب ذو الحس المثالي الرومانسي الذي يخشى العودة إلى ما كان، في مقابل آخرين يطالبون بتطرف إلى العودة إلى ما اعتادوا عليه، وبدأ التضارب بين تعبيري "التغيير" و"الاستقرار". أحمد جمال، منسق شباب الاستقرار والمؤيد لفترة مبارك، قال لنا في إبريل الماضي: "إذا أردنا إشاعة مناخ الاستقرار في مصر فليس هناك حل سوى أمرين إما حكم رجال الدين مثل الشيخ محمد حسان أو محمد حسين يعقوب أو الحكم العسكري لأحد رجال القوات المسلحة".
هذه النبرة التي استخدمها أحمد جمال لم تراعي الاهتمام العالمي بثورة 25 يناير أو ترقب ما ستسفر عنه من تغيير. في حين أن صورتنا كانت أسوأ بكثير في الفترة الماضية، وهذا ما عبر عنه "ألبان" الشاب الفرنسي المقيم في القاهرة من خلال تحقيق حول مغامرة "عبور الشارع في مصر" ، ليكشف لنا زاوية لا نراها بحكم الاعتياد، وهي أننا نعيش في سيرك يومي، وأننا لسنا أحرارا في الشارع.
على مدار ألف ليلة و عدد من "الشروق" كنا كمصريين نتعايش مع الوضع القائم، فهل سنعود و نستسلم من جديد أم سيستمر التغيير؟ حتى اليوم ما زالت الجدران تحمل عبارات ثورية بشكل صريح لم نره إلا بعد 25 يناير... وفي العام الماضي كنا نبحث عن "هتاف الصامتين" بين العبارات والملصقات المكتوبة في شوارعنا وعلى خلفيات السيارات، كان الجديد آنذاك هو نبرة العنف واليأس التي زادت حسبما ذكر صناع تلك الملصقات، فليس أدل على الكفر بالإنسان وقيمه العليا من عبارات مثل: "محدش فاهم حاجة"، أو "مفيش حد صالح.. كله بتاع مصالح". وهي عبارات كتبت على خلفيات السيارات النقل والميكروباص والتوك توك. فكانت المفاجأة هذا العام في عبارات أخرى مثل "سلمية .. سلمية"، "مسلم.. مسيحي .. إيد واحدة". لكن هذه العبارات لم تصل بعد إلى سائقي الميكروباص أو إلى جدران الحواري، بل ضاقت الصدور مؤخرا بالكتابة الثورية على الجدران، ووصل الأمر أحيانا إلى حد الاعتقال...
حكاية النجوم الجدد
تسعي شهرزاد في حكاياتها وراء أفراد على الهامش، كان لديهم القدرة على الفعل، وفي الألف ليلة الأخيرة من حياتنا، كان هناك من يعملون على الهامش ولا ينتظرون سوى رضاهم عن أنفسهم واثقين أنهم سينتقلون إلى واجهة المشهد قريبا.. في العام 2009 أثير الجدل حول الألتراس وكانت تلك كلمات أحدهم وقتها: "اتهمونا بصفات وصلت إلى حد الكفر ونسوا أن الشغب موجود في الملاعب المصرية منذ الستينيات عندما كان الجمهور يقذف بعضه واللاعبين بالحجارة، كما توالت أحداث أخرى على مر السنين، فلماذا يحملونا مسئولية الفوضى الآن؟" .
كان الألتراس على الهامش عند نشر الموضوع، يشكل الإعلام صورتهم، حتى أتاحت لهم الثورة فرصة الحركة في الشارع بحرية، وتحول اسم الألتراس إلى مرادف للقوة في الشارع.. الفارق بين صورة الألتراس الآن وصورتهم آنذاك أنهم أصبحوا الآن ضمن واجهة المشهد رغم ما يتعرضون له من ضغط واعتقالات، لكن المحصلة أنهم امتلكوا مساحة أكبر عن ذي قبل.
هذه الفئات التي أرادت الابتعاد عن المؤسسات التقليدية المسيطرة على كل شيء لصالحها أنتجت أيضا فنونا تخصها، إذ ازداد عدد الفرق المستقلة في الموسيقى والتمثيل هروبا من السلطة الخانقة لمؤسسات الدولة، لكن الظاهرة الأطرف في هذا المجال كانت هي "موسيقى المهرجانات الشعبية" التي عشنا بعض تفاصيلها في العام الماضي ضمن ملف "موسيقى الشارع"، وهناك التقينا شبابا يملكون الشارع في مساحات محدودة داخل سرادقات بمناطقهم الشعبية، واستهدفوا شرائح قريبة منهم أبسطها سائق التوك توك الذي كان يتحرك بحذر في مساحته التقليدية. أبناء هذه الموسيقى الهجينة بين الغناء الشعبي وموسيقى الراب الغربية لم يصبهم الارتباك الذي أصاب فنانو الإعلام الرسمي، بل أنتجوا موسيقى مؤيدة للثورة، وأدركوا أن مساحاتهم الضيقة في الشوارع والحارات لم تعد تكفيهم، لأن الشوارع تحركت، فلم يعد غريبا أن نجد على مسرح الجنينة في حديقة الأزهر مؤخرا حفلا لقطبي هذا الفن وهما (فيجو، و عمرو حاحا).
حين كنا نكتب عنهما العام الماضي، كنا نسلط الأضواء على الهامش الذي بدأ ينتقل إلى الواجهة بعد الثورة، إذ صنعت حركة الشوارع أثناء الثورة هزة عنيفة، قذفت بالتوك توك إلى ميدان التحرير وأمام السفارة الإسرائيلية أثناء الاحتجاجات.
والحالة نفسها نجدها في مجال السياسة، فبعد الثورة طرحنا أسئلة حول النخبة الجديدة، هل سيتحول شباب الثورة الذين كانوا على الهامش إلى صورة مكررة من النخبة القديمة؟ و الإجابة: لم يعد الأمر بهذه البساطة، فرغم أن بعضا من شباب الثورة أصبحوا نجوما في الإعلام إلا أنهم سيظلون مدركين أن هناك آخرين ما زالوا على الهامش و يمتلكون أدواتهم نفسها من انترنت وتكنولوجيا رخيصة تسمح لهم بالتواجد والضغط.
كان الألتراس على الهامش عند نشر الموضوع، يشكل الإعلام صورتهم، حتى أتاحت لهم الثورة فرصة الحركة في الشارع بحرية، وتحول اسم الألتراس إلى مرادف للقوة في الشارع.. الفارق بين صورة الألتراس الآن وصورتهم آنذاك أنهم أصبحوا الآن ضمن واجهة المشهد رغم ما يتعرضون له من ضغط واعتقالات، لكن المحصلة أنهم امتلكوا مساحة أكبر عن ذي قبل.
هذه الفئات التي أرادت الابتعاد عن المؤسسات التقليدية المسيطرة على كل شيء لصالحها أنتجت أيضا فنونا تخصها، إذ ازداد عدد الفرق المستقلة في الموسيقى والتمثيل هروبا من السلطة الخانقة لمؤسسات الدولة، لكن الظاهرة الأطرف في هذا المجال كانت هي "موسيقى المهرجانات الشعبية" التي عشنا بعض تفاصيلها في العام الماضي ضمن ملف "موسيقى الشارع"، وهناك التقينا شبابا يملكون الشارع في مساحات محدودة داخل سرادقات بمناطقهم الشعبية، واستهدفوا شرائح قريبة منهم أبسطها سائق التوك توك الذي كان يتحرك بحذر في مساحته التقليدية. أبناء هذه الموسيقى الهجينة بين الغناء الشعبي وموسيقى الراب الغربية لم يصبهم الارتباك الذي أصاب فنانو الإعلام الرسمي، بل أنتجوا موسيقى مؤيدة للثورة، وأدركوا أن مساحاتهم الضيقة في الشوارع والحارات لم تعد تكفيهم، لأن الشوارع تحركت، فلم يعد غريبا أن نجد على مسرح الجنينة في حديقة الأزهر مؤخرا حفلا لقطبي هذا الفن وهما (فيجو، و عمرو حاحا).
حين كنا نكتب عنهما العام الماضي، كنا نسلط الأضواء على الهامش الذي بدأ ينتقل إلى الواجهة بعد الثورة، إذ صنعت حركة الشوارع أثناء الثورة هزة عنيفة، قذفت بالتوك توك إلى ميدان التحرير وأمام السفارة الإسرائيلية أثناء الاحتجاجات.
والحالة نفسها نجدها في مجال السياسة، فبعد الثورة طرحنا أسئلة حول النخبة الجديدة، هل سيتحول شباب الثورة الذين كانوا على الهامش إلى صورة مكررة من النخبة القديمة؟ و الإجابة: لم يعد الأمر بهذه البساطة، فرغم أن بعضا من شباب الثورة أصبحوا نجوما في الإعلام إلا أنهم سيظلون مدركين أن هناك آخرين ما زالوا على الهامش و يمتلكون أدواتهم نفسها من انترنت وتكنولوجيا رخيصة تسمح لهم بالتواجد والضغط.
No comments:
Post a Comment