Friday, December 24, 2004

علماني كافر

يجهد بعض الإخوة أنفسهم في سباب العلمانية ومحاولة إثبات أنها ضد الإسلام تمهيدا لتجهيز تهمة العلمانيةلأي مجتهد حتى لو كان اجتهاده من خلال النص الديني. وذلك منعا لإجهاد العقل في التعامل مع أي طرح فكري غير تقليدي، فيكون ردهم واجتهادهم فقط في وصم هذا الطرح الفكري باللعنات والنعوت المخيفة بغرض نفيه تماما من على الساحة، بدلا من تقييمه والاعتراف بما قدمه من فائدة حتى لو كان أغلبه غير مقبول.
نعم.. علمانية أوروبا التي تنفي كل صلة للدين بالحكم، لن نقبلها جميعا، وفي الأغلب سيكتب لها الفشل على مر الأيام بين شعوبنا المحبة لدينها. لأنها نبتة أوروبية لا يصلح زرعها في بيئتنا، ولكن لماذا لم نتساءل أولا - دون أن نخوِّن بعضنا – لماذا كان اتجاه البعض منا نحو تلك الفكرة الغربية أصلا..؟! ثم لماذا إذا اشتط أحد هؤلاء لا نعيده إلينا كفرد من جماعتنا و نتناقش في جو آمن بدلا من أن نُظهر الدين –دون أن ندري- على أنه عائق بين طموحاتنا وبين وحدة فكرنا..؟ هذا أمر لا نقبله ، ولا يقبله خالق الدين نفسه.
إن من اتجه إلى العلمانية - على النمط الأوروبي - إنما اتجه إليها هروبا من فكرة أن يكون لفئة ما من المجتمع سطوتها ونفوذها باسم الدين كما كان لكنيسة روما في العصور الوسطى، فكان التعامل مع تلك الفكرة بغرض إزاحة تلك الفئة من الصورة.
لذا فلا عجب إذا وجدنا أن تلك الفكرة قد بدأ تناولها والتعامل معها -ولن أقول الإيمان بها- بعد عهد محمد علي الذي حاول إضعاف النفوذ (السياسي) لرجال الأزهر والأشراف، ذلك النفوذ الذي اكتسبوه على أساس ديني أعطاهم شيئا من القداسة وجعل العامة تهرع إليهم كي يأتوا إليهم بحقوقهم الضائعة، مع وجود فئة التجار التي كان من الممكن أن تكون نواة لطبقة برجوازية قوية.
و لكن للأسف فمفكرينا لم يأتوا إلينا حتى اليوم بالفكرة التي تصلح لمجتمعاتنا بدلا من الأخذ بفكرة أوروبية جاهزة نتجت وتطورت في بيئة و ظروف مختلفة، على الجانب الآخر.. نجد النداءات واللعنات تنصب على (العلمانية) كمدخل لجعلها تهمة جاهزة يتهم بها المجتهدين أو المقترحين حتى لو كان اجتهادهم ذلك من خلال النص الديني. وهنا لا بد أن نتساءل أولا.. كم شخص خرج من بيننا يلعن هذا الدين (هذا غير الذين يقومون بسب الدين كنوع من السباب)...؟! و كم شخص أعلن للناس كفره بالدين..؟! وكم عدد أولئك الذين رفضوا أن يُستخدم الشرع في التشريع والقانون ..؟! قلة قليلة ذات صوت عال ، زعق حولها آخرون من "حماة الدين" فجعلوهم ظاهرة،
ولما كان البعض مستفيدا من وجود هؤلاء ممن لقبوا (بالأعداء) و (العملاء) لعدم قدرته على مواجهة أعدائه الحقيقيين ، فجاء ذلك الاتجاه نحو التكاثر عليهم واستضعافهم لتحقيق أي نوع من النصر في زمن كثرت فيه الهزائم. فتكون الحصيلة لدينا فريقين ،صُنِّفَ أحدهما على أنه إسلامي و صنف الأخر على انه علماني . وذلك رغم أنه من ضمن هؤلاء ممن سموا بالعلمانيين أناسا كان غرضهم طرح فكر جديد ، بل إن منهم من استخدم النص الديني في ذلك. ولأن العلمانية ليست من نتاج ثقافتنا ، فكثيرا ما يخفق من يحاول استخدامها حتى مع استعمال النص الديني في ذلك. ولكن الكارثة ليست في الإخفاق بقدر ما هي في إقصاء تلك الاجتهادات و التعامل معها على أنها ملعونة، مما قد يؤدي إلى تعنت هؤلاء المجتهدين بعد ذلك ممن أرادوا الخير لوطنهم. فكما يقال (العند يورث الكفر) . ولكن الأفضل والأفيد والأصدق لهؤلاء الذين يربطون بين كل من تعامل مع فكرة العلمانية وبين كون تلك الفكرة عير مقبولة و ليست نتاج حضارتنا أو أفكارنا ومن الصعب تطبيقها عمليا في مجتمعاتنا.. أقول أن الأصدق لهؤلاء أن يأتوا بأفكار من اجتهد، ويحاولوا دراستها و نقدها، ليس بغرض إنكارها كلية أو إظهارها بمظهر الكتابات الملعونة، ولكن بغرض تقويمها والوصول بها إلى ما يرضاه خالقنا وخالق عقلنا الذي جعله لنا وسيلة للاجتهاد والتصويب. ولكن حالة "البطالة" الفكرية التي نعيشها تجعلنا نستسهل أن نأخذ بقوالب جاهزة، فإما علمانية غربية تنفي الدين من الحياة السياسية. أو ممارسة كهنوتية للسلطة باسم الدين.
في النهاية أتمنى أيضا ألا نمزج بين فكرة سياسية -العلمانية- كان لها رؤيتها للدين، والتي ظهرت في بيئة وظروف تاريخية بعيدة عنا، وبين ما نعانيه اليوم من ابتذال أو عدم التزام أخلاقي أو حتى قيام البعض من بيننا – وهم ندرة- بالتهكم على الأديان، فلو لم يكن هنالك علمانية، لوُجدت كل تلك الأمور، لأنها تصرفات إنسانية تظهر في ظروف معينة علينا دراستها أولا.
و أخيرا أتمنى ألا يعتبر هذا المقال دفاعا عن الكفر ، الذي لقبه البعض منا "علمانية" .. أو أن يُعتبر دفاعا عن العلمانية التي اعتبرها البعض منا "كفرا".. فأكون بذلك علماني كافر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

No comments:

Post a Comment