Thursday, March 29, 2012

في لحظات الحزن القبطي .. إن فقدت البابا فكن مينا دانيال

مينا دانيال.. بروفة قبطية على الحزن قبل رحيل البابا

عبد الرحمن مصطفى
تحافظ مارى شقيقة الشهيد مينا دانيال على الابتسامة الهادئة وارتداء الملابس السوداء منذ أن لقى أخوها مصرعه خلال أحداث ماسبيرو فى أكتوبر الماضى، أما أختها الصغرى شيرى (25 سنة) فتصف حالة الحزن القبطى على وفاة البابا شنودة قائلة: «نحن نرتدى السواد منذ وفاة مينا.. الأسرة فى حالة حداد ممتدة». تقول عبارتها بابتسامة دون إبداء مرارة أو ضيق. ويحمل الطريق إلى المنزل فى عزبة النخل عبارات على الأسوار وواجهات المتاجر مثل «مسلم ومسيحى إيد واحدة»، وبمجرد العبور من بوابة المنزل فى طريق لا يرتاده من المواصلات سوى التوك توك يظهر مشهد لا يختلف كثيرا عن بعض المنازل القبطية الأخرى، حيث تبرز صورة القديس كيرلس السادس، وصورة أخرى للمسيح عليه السلام، وفى الواجهة صورة عملاقة للناشط السياسى الراحل مينا دانيال.. لم تكن ذكراه هنا فقط، بل تكرر الحديث عنه مؤخرا مع حالة الحزن على وفاة البابا شنودة الثالث، خاصة بين بعض الشباب على الإنترنت الذين عبروا عن ذلك بعبارات من نوعية: «يمكننى أن أوجه العزاء لإخوانى المسيحيين ولكن الأولى أن أرثى أخى مينا دانيال». وتصريح آخر كالذى ذكره النائب زياد العليمى، عضو مجلس الشعب: «يصعب علينا أن نُعزى فى البابا شنودة وحق دم شهداء ماسبيرو لم يعد»..أما داخل المنزل الذى يضم عائلة صعيدية تمتد أصولها إلى محافظة أسيوط، فقد كانت المفارقات تظهر واحدة بعد الأخرى، إذ نشأ مينا دانيال (جيفارا المصرى حسبما يصفه البعض) فى بيت مسيحى ملتزم، تضحك شيرى أثناء تعليقها: «هناك بعض الملامح السلفية فى منزلنا، لم يكن من السهل مشاهدة قنوات الأغانى على سبيل المثال، وعلى فكرة لم تكن تلك البيئة متعارضة أبدا مع توجه مينا فى الانفتاح على الآخرين، أيا كانوا». المفارقة الأخرى عاشتها شيرى مؤخرا أثناء نضالها من أجل الدخول إلى الكاتدرائية لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على البابا شنودة الثالث، حين انزعج البعض من ثباتها النفسى أمام هذا المشهد: «تعجبت من الناس الذين كانوا يصبروننا بعد وفاة مينا، ويدعوننا إلى الثبات، قائلين إن مينا فى مكان أفضل، كنت أسأل نفسى لماذا لم أجد ثباتهم هذا الآن؟، إذ صدمت بمشاهد الانهيار النفسى فى الكنيسة».
قصة مينا دانيال وكيف تحول إلى أيقونة لدى بعض الشباب، تشبه قصص فتيان آخرين آمنوا بأن حل قضايا الأقباط هو جزء من حل قضية مصر بأكملها. فى صالة المنزل حيث تجلس مارى (41 سنة) محاطة بصور أخيها الذى تربى على يديها، تجد نفسها هى الأخرى أحد هؤلاء الذين كانوا يتأرجحون بين عالمين: عالم ترى فيه أخيها الأصغر الذى توفى العام الماضى فى سن العشرين، حيث يسعى الناس فى مسيرات وفاعليات من أجل التغيير، وعالم آخر يُفوض الكنيسة وكيلا للشعب أمام السلطة. مارى وأختها شيرى أصبحتا الآن أقرب لطريق أخيهما الراحل، حسبما تؤكدان، ففى السابق كانت الأسرة لا تبدى اهتماما بقدر ما تبدى قلقا من توجهات مينا، ولم تشارك مارى فى البداية سوى بدافع مشاركة أخيها فى عالمه، أما مشاركات العائلة فكانت ذات منظور قبطى، لكن ذلك تغير بعد الثورة، إذ توضح مارى شارحة: «أنا على سبيل المثال من جيل التسعينيات الذى شهد فى أسيوط إرهاب الجماعات الاسلامية وجها لوجه، لقد أخذتنا الثورة وشباب مثل مينا إلى مساحات أخرى، ولم نعد نقلق وسطهم من الآخر وعقائده». حتى اليوم ما زالت تأتيها عبارات من نوعية: «مش كفاية بقى مظاهرات وتحرير.. مش كفاية اللى حصل لمينا؟». لكنها وأختها شيرى اختارتا الطريق، أن تكون لهما قدم فى الكنيسة حيث الروح، وقدم فى الشارع حيث الحقوق.
بعد وفاته كانت تأتى الاخت الصغرى أسئلة حول هوية مينا دانيال الدينية، «هو كان شيوعى؟!» بهدف الاطمئنان على نقاء إيمانه، وتبتسم متذكرة كيف كان يتحدث عن تشى جيفارا حين سألته أيضا هى الأخرى: «هو جيفارا ده مش كافر وملحد، بتقرا عنه ليه؟!». لكن العائلة كانت تدرك حقيقة نجلها الذى كان شماسا فى سن المراهقة، ولم يترك الكنيسة المجاورة إلا حين طلب منه القسيس حلق شعره وذقنه، فاتجه إلى كنائس أخرى، وأثناء احتجاجات كنيسة القديسين قبل الثورة مباشرة، هتف مينا داخل الكاتدرائية وصفعه وقتها أحد القيادات الكنسية، دون أن يخرجه ذلك من عباءة المسيح. هذا المنزل الذى شهد زيارات من مرشحين رئاسيين وقنوات إعلامية، أقنع مارى بأن تكمل مسيرة أخيها، وتعمل مع أختها الصغرى شيرى كتفا بكتف فى حركة مينا دانيال ضمن مسيرات وفاعليات وأعمال توعية. وتكمل مارى قائلة: «وجدت الحل فى نموذج مينا دانيال، وشباب مثله لا يعرفون الطائفية، وأشعر فعلا بأنهم أبنائى». فى عيد الأم الماضى تلقت مارى ووالدتها مكالمات عديدة من أشخاص أرادوا فقط دعمها معنويا، وبين المشاركة فى أنشطة الحركة وحتى فى وجودها على الفيسبوك، أصبحت لديها رسالة لتوجهها: «أحيانا ما تحدثنى فتاة عبر الانترنت وتعرف نفسها بأنها فلانة من كنيسة كذا، أبلغها فورا ألا تعرفنى بديانتها، وأطلب منها أن تعرفنى فقط بنفسها». بدأ مينا دانيال هذا الطريق فى سن السابعة عشرة بالمشاركة فى الكثير من الحركات الداعمة للقضية القبطية وأخرى ذات توجه يسارى، توقف مارى بصرها لدقائق على صورة مينا المعلقة على الحائط أمامها، وتكمل: «هناك حالة متواصلة من الإعاقات بين خشية البعض أن نلقى نفس مصير مينا فى النهاية، وبين من يسددون لنا سهام النقد متخذين الدين وسيلة لتثبيط الهمم على طريقة: الزم الكنيسة وودع ما سواها».ورغم النبرة الثورية التى تتحدث بها مارى دانيال، فلا يبتعد الايمان عن قلب الأسرة المتدينة، إذ تقول أختها شيرى: «حتى الآن لم نحصل على حق أخينا، لكنى لن أنسى كلمات أبينا حين تلا علينا من الإنجيل ما يدعو إلى تنقية القلب من الضغائن». ذلك المنزل الذى تقيم فيه الأختان الآن هو جزء من بيت العائلة، لكنه أصبح أشبه بمتحف لمينا دانيال، أما ما ترياه الأختان من إرث حقيقى فهو ما أدركتا من أن نيل الحق بالصدق فى النضال، وأن هناك عالما أكبر من عالم الطائفة وعالم النخبة.


مايكل وطارق.. نسختان من روح واحدة

قبل أكثر من عام لم يتخيل طارق معوض ومايكل يوسف أن يكونا صديقين وشريكين فى حركة ثورية واحدة، وأن تجمعهما حركة مينا دانيال التى تأسست فى أعقاب مصرع صديقهما المشترك فى أحداث ماسبيرو. حتى الآن يتذكر متظاهرو محمد محمود، الشاب ذو الخلفية السلفية حامل راية مينا دانيال فى الصفوف المتقدمة، طارق الشهير بـ(الطيب)، الذى وقف وسط الدخان والخرطوش المتطاير، أما مايكل فقد تلقى رصاصة فى ساقه فى اليوم نفسه الذى قتل فيه مينا على بعد أمتار قليلة منه. يقول مايكل يوسف طالب الهندسة: «فى بداية أحداث الثورة كان بعض أفراد عائلتى فى الأقصر يعتقدون أننى أشارك فى شغب يقوده الاسلاميون، حسب دعاية التليفزيون المصرى آنذاك، كانت علينا ضغوط حقيقية، لكنها خفت اليوم، حتى لو قلل البعض من شأننا». نفس الجدية والثقة التى يتحدث بها مايكل الذى طاف بين الحركات السياسية طوال العام الماضى، هى نفسها الثقة التى يتحدث بها طارق الطيب، لكنه يكسر هذا المزاج الجاد مازحا: «مايكل أيضا سلفى، لكنه مسيحى». تضم حركة مينا دانيال عشرات الشباب من المسلمين والمسيحيين، أغلبهم كانوا على صداقة شخصية بمينا، بينما تضم الصفحة على شبكة فيسبوك الاجتماعية أكثر من 4 آلاف عضو، إلى جانب المسيرات والمظاهرات التى تشارك فيها الحركة، فهناك ملتقى مينا دانيال الثقافى الذى يهدف إلى التوعية، كما تضم الحركة أفرادا خارج العاصمة. أما مايكل وطارق فقد جمعهما خيط واحد، فكلاهما ذو خلفية متدينة، وإن كانا يحرصان على ألا يكون الإيمان هو الواجهة التى يقابلان بها العالم. يروى مايكل يوسف الذى انضم إلى حركة 6 إبريل أثناء العام الماضى بعض مشاهد رآها بعد وفاة البابا شنودة ورآها ضد قناعاته، إذ يقول: «هناك بين النخبة السياسية من يفتعل مشكلة بين الدين والتغيير، كأن تجد أحدهم يهاجم مواقف البابا بعد وفاته مباشرة، مثل تلك الأشياء هى التى تنفر ذوى التوجه المحافظ من السياسة وقضايا التغيير».
طارق الطيب الذى اختار صداقة مينا دانيال منذ الأيام الأولى للثورة بعد إعجابه بشجاعة الراحل، كان أقرب أصدقائه رغم دهشة بعض من حوله، ويوضح: «حتى الآن أجد من يمارس ضغوطا بأسئلة ساذجة، مثل: كيف كنت تصاحب من اختار الكفر؟ وهنا أتذكر الكثير من الأحاديث النبوية التى أراها تترفع عن ضيق الأفق بهذا الشكل». يتحدث طارق الطيب بنصوص إسلامية ونبرة قرآنية تبرز فيها اللغة العربية السليمة. وحين يطل كل من مايكل وطارق على الحياة، يكتشفان أنه ما زال هناك من يعيش فى عالم ضيق ولا يواجه مخاوفه من اختلاف الآخر. يتذكر طارق جيدا تفاصيل زيارته إلى عائلة مايكل فى الأقصر، وكيف كسر الصورة التقليدية للسلفيين، ويكمل شارحا: «دخلت الكنيسة وتحدثت فى كل شىء، وتقاربت المسافات حتى إن والد مايكل قد اتصل ليطمئن علىّ بعدها». يفخر مايكل بأن والده أدرك مبكرا أن ابنه على الطريق السليم مع الثورة، لكن ذلك لم يمنع ضيق الوالد وقلقه من استمرار الاحداث، وتحول موقف بعض أفراد عائلته بعد أحداث ماسبيرو حين وجدوا قضيتهم يناضل من أجلها شباب الثورة. لا يصف أبناء حركة مينا دانيال أنفسهم سوى بأنهم حركة ثورية، ولا يطمحون مستقبلا فى أى منصب، قضيتهم هى مواجهة الفقر والتهميش، مثلما كان صديقهم الراحل مينا دانيال، يكرر دائما : الفقراء أولا.
PDF

Thursday, March 15, 2012

الصفحات الثورية.. معركة مستمرة


ضغطة زر على الكمبيوتر قد تكون بداية حركة تغزو الشوارع
كتب - عبدالرحمن مصطفى


ثورة معهاش بطاقة: أفكار تحت 18سنة



«مفيش ضغوط جامدة حصلت علينا بسبب صفحتنا على الفيسبوك، إحنا أقصى حاجة بتتقال علينا هو اتهامنا بأننا موجهين أو بيتم استغلالنا»، هذا التحليل الأخير يخص آية محسن ــ العضو المؤسس فى صفحة «ثورة معهاش بطاقة» على شبكة فيسبوك الاجتماعية ــ ويأتى تعليقها على خلفية ردود أفعال البعض على الصفحة التى تضم شبابا من مؤيدى الثورة أقل من 18 سنة. هذه الصفحة كانت سببا فى تسليط الضوء على أعضائها، خاصة بعد الحلقة التى أظهرتهم مع الإعلامى يسرى فودة، وفى أسابيع قليلة بدأت بعض التفاصيل المربكة فى الظهور.. بداية من الأنباء التى ترددت عن تقديم بلاغ ضد الإعلامى يسرى فودة بسبب هذه الحلقة واتهامه باستغلال الأطفال فى أغراض سياسية، إلى جانب ما تلقته أية محسن (14 سنة) واثنان من زملائها من رسائل مزعجة وصلت حد التهديد المباشر، ما جعلهم يتركون إدارة الصفحة فترة قصيرة خوفا من اختراقها. تتحدث آية الآن دون قلق قائلة: «كل ما نهتم به حاليا هو استغلال الفرصة بعد أن عرفنا الناس ومستخدمو الانترنت، كى نقدم عملا مفيدا لأبناء جيلنا». تقوم فكرة صفحة «ثورة معهاش بطاقة» على أن يقدم كل من هم تحت 18 سنة مواهبهم عبر الانترنت، وذلك فى خدمة الثورة. وبدأ الأمر خلال إجازة منتصف العام الماضية على موقع تويتر، إذ استخدمت آية محسن وأصدقاؤها رمز TwitterUnderAge مستهدفين مستخدمى موقع التدوين القصير، ومن هنا تطورت الفكرة إلى تأسيس صفحة على الفيسبوك، بعد أن اكتشفوا أن بينهم أصحاب مواهب متعددة.
محمد نور طالب الصف الأول الثانوى، رغم أنه مقيم فى مدينة الإسكندرية إلا أنه شارك من البداية، ويعلق قائلا: «أنا أتعامل مع برنامج الفوتوشوب منذ أكثر من عام، وأقوم بعمل تصميمات من أجل الثورة منذ ستة أشهر، لذا أعجبتنى فكرة أن نجتمع سويا فى صفحة واحدة على الهدف نفسه». ظلت تلك المجموعة لأسابيع تتعامل الكترونيا ولم يروا بعضهم بعضا. وأهم نقاط الاختلاف فى هذه الصفحة أنها ليست صفحة ثورية تقليدية تسعى إلى حشد شريحة من الجماهير، بعض أعضائها من الشباب الصغير يرفعون صورهم أثناء تواجدهم فى مظاهرات، لكنهم لم ينظموا بعد مسيرات أو وقفات احتجاجية. البعض جرب هذا من قبل مثل آية، طالبة الصف الثالث الإعدادى التى تروى باعتزاز كيف شاركت مع أصدقائها فى مسيرة ورسموا جرافيتى على الجدران. أما محمد نور ــ الطالب السكندرى ــ فقد نشر تصميماته على مدونته الشخصية وعلى صفحته الخاصة على الفيسبوك، والتى تحمل شعارات ثورية من نوعية : «إنت طالب.. اتكلم، قول رأيك متخافش»، وتصميم آخر يقول: «بكرة نموت والثورة تعيش». وعلى المنوال نفسه تقوم فكرة الصفحة، بحيث تكون تجميعا لشتات شباب صغير، كما يوضح محمد نور: «البعض ينتقدنا ويقول لنا: أنتم أشخاص عاديون، والتميز فقط هو فى سنكم الصغير، لكن حين تكبرون ستنتهى قصتكم». مثل هذه العبارات لا تؤثر كثيرا فى عزيمتهم، إذ يفكر محمد نور من الآن فى خطته بعد سنتين حين يتم 18 سنة ويصبح مجبرا على ترك إدارة الصفحة لكوادر أصغر منه، أما الآن فيدير مع زميلين مجموعة المصممين، ويدير معهما مسابقة لاختيار فريق المصممين للصفحة، هذا وهناك فرق آخر مثل الكتابة والتدوين وإعداد الفيديوهات وفريق للرسامين.
قد تبدو الصفحة للوهلة الأولى قريبة من مواقع التنمية البشرية، إلا أن ذلك الانطباع يزول تماما بعد الاطلاع على المحتوى الثورى والعبارات الناضجة التى يكتبها المساهمون. لكن يظل كل ما تخشاه آية محسن ومحمد نور وزملاؤهما أن تفتر الهمة، ولا يطمئنهم سوى أن الأدوات نفسها التى جمعتهم على تويتر وفيسبوك هى نفسها التى قد تضمن لهم الاستمرار.



مؤسس ثورة الغضب المصرية الثانية: سيخطئون.. وننتصر


يحتفظ هشام الشال ــ مدير صفحة ثورة الغضب المصرية الثانية على الفيسبوك ــ بابتسامة دائمة وروح مرحة لا تفارقانه طوال الوقت، رغم ما تبديه ملامحه من جدية. هذه الصفحة التى تضم آلاف الأعضاء، بينهم مجموعة صغيرة هى التى تواظب فعليا على المشاركة فى المسيرات والأعمال الاحتجاجية، ويصفهم الشال قائلا: «نحن مجموعة من المجانين، المؤمنون بالثورة حتى النهاية». ورغم الهدوء النسبى الذى ساد الأسابيع الماضية إلا أنه يبدو مشغولا ومتواصلا مع أبناء ثورة الغضب الآخرين، رافضا إرجاع هدوء الأحداث إلى الإحباط أو اليأس. كما يواظب مع زميلين يديران معه الصفحة على رشق العبارات الجريئة من نوعية: «من هنا ورايح، التصعيد ليس له سقف.. كل شىء متاح ومباح». يكرر هشام الشال تلك العبارة التى كتبها بفخر قائلا: «هذه العبارات تقلقهم جدا..». فى فترات سابقة كان هذا القلق يترجم إلى إنذارات وتشنيع مثلما حدث فى أكتوبر الماضى حين خرج أدمن الصفحة الرسمية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة عن تقاليده وتوعد هشام الشال بصفته واسمه، وذلك بسبب الإعداد والنزول فى مسيرات إلى وزارة الدفاع، ويروى هشام الشال ذلك الموقف دون اكتراث حقيقى.
فى العام الماضى وأثناء أحداث الثورة المصرية انتقلت حياة كثيرين من السكون إلى الصخب، وهذا ما حدث مع هشام الشال الذى لم يكن له أى نشاط سياسى سابق، وفى الميدان تكونت صداقات مع أفراد من معتصمى التحرير، وما زالت هذه المجموعة فى اجتماعات مستمرة حتى يومنا هذا، خاصة على مقاهى وسط البلد، وحسب تعبيره «نحن صناعة الثورة».
من صفحة على شبكة الفيسبوك كانت البداية حتى تحولت «ثورة الغضب الثانية» إلى حركة ثورية، وهو القرار الذى اتخذه هؤلاء النشطاء فى أعقاب أحداث محمد محمود الأولى فى نوفمبر الماضى، هذه التفاصيل يحفظها هشام الشال جيدا كأنها حدثت بالأمس، ويشرح قائلا: «فى السابع من مايو 2011 وتحديدا فى الساعة الثالثة عصرا دشنت صفحة ثورة الغضب المصرية الثانية، واستعرت الاسم من صفحة تونسية شبيهة كانت تحاول آنذاك إحياء الثورة التونسية من جديد».
فى تلك المرحلة عقب فض اعتصام 9 مارس 2011 وأحداث 8 إبريل 2011 اللتين أسفرتا عن إصابات وقتلى، أدرك البعض أن هناك مواجهة قادمة مع السلطة، لذا اختار «الشال» أن يبدأ مغامرته مع أصدقاء التحرير فى صفحة تدعو إلى مليونية واعتصام فى 27 مايو. وزاد الجدل بعد رفض الإخوان المسلمين لها وتسميتها «جمعة الوقيعة بين الجيش والشعب»، ونجحت المليونية رغم عدم نجاح الاعتصام، ويقول الشال عن البداية: «كنا فى تلك الفترة المبكرة نهتف ضد حكم العسكر، وأتذكر أن بقية الناس من حولنا كان يستهجنون ذلك، على عكس ما يحدث اليوم». قد يبدو مظهر هشام الشال أدمن صفحة «الغضب الثانية» للوهلة الأولى أكبر من سنه، خاصة مع اللحية التى يخطها الشيب إلا أنه لم يتجاوز الرابعة والثلاثين. تلك الصورة تتلاشى وقت الفاعليات حين يتواجد الجميع كتفا بكتف، ويصبح عضو الحركة الأربعينى زميلا مساويا للعشرينى، تلك الأجواء الموحية بعالم اليسار الثورى، لا تنتمى إلى اليمين أو اليسار، بقدر ما تنتمى إلى الحالة الثورية فقط على حد وصف هشام الشال الذى يضيف قائلا: «لا أستطيع أن أميز فى الحركة شابا يساريا أو آخر ليبراليا، ربما يظهر لدى البعض خلفية إسلامية، لكن الجميع يفكرون بالطريقة نفسها، وليس هناك خلافات أو اختلافات كبيرة».انتقال الصفحة من الفيسبوك لتصبح «حركة ثورية» لم يأت فجأة، إنما كان الانترنت وسيلة حشد طوال العام الماضى لفاعليات مختلفة، وكانت العلاقات المباشرة وجها لوجه هى الأساس فى العمل على الأرض، لذا اختارت المجموعة أن تتحول إلى حركة ثورية، خاصة بعد ازدياد عدد مريديها فى المحافظات ودخولها فى عمليات تنسيقية مع قوى وجبهات أخرى. قبل سنوات كان هشام الشال هو ذلك الشاب السلفى الدارس للعلوم الشرعية، وظل هكذا لمدة عشر سنوات، لكن الثورة طرحت أسئلة جديدة فى رأسه، ويصف ذلك معلقا بجدية: «بعد الثورة سألت نفسى: هل أنا إسلامى؟ وما معنى هذا الوصف؟ خاصة بعد أن وجدت فى أخلاقيات الميدان وروح الجماعة ما يقارب المبادئ المثالية التى عكفت عليها لسنوات». فى الفترة السابقة على الثورة لم يتعرض للتعسف الأمنى سوى مرة مع جهاز أمن الدولة المنحل، إذ تعرض لإجراء روتينى له صلة بإطالة اللحية وإزالتها. أما فى الأشهر الماضية فقد تعرض لفقدان عمله كمحاسب بسبب قراره الاعتصام أثناء أحداث محمد محمود، ورغم اعتقال أحد أعضاء الحركة قبل أسابيع ثم الإفراج عنه فى وقت لاحق، إلا أن ذلك لا يثير قلقه، ويعلق قائلا: «ذلك أقصى ما يمكن أن يحدث، لكن ما لا يدركه البعض أن فى أغلب الأحداث السابقة كان أبناء الحركة فى الصفوف الأولى دائما، فنحن مؤمنون بما نفعل، حتى إننا لا نخشى أن يندس بيننا أحد، لأنه سينكشف فى لحظة الحقيقة أثناء العمل». ماذا بعد؟؟ يجيب فورا بثقة: «الجميع يظن أن الثورة انتهت لكن الثوريين الحقيقيين يمهلون السلطة بعض الوقت، حتى يرى الناس حقيقة من يحكمهم، وفى اللحظة المناسبة سنعود، حين يتحرك معنا الناس».
هشام الشال ورفاقه لا يشغلهم حجمهم أو عددهم، إذ يخرجون فى مسيرات وهم بالعشرات لينضم إليهم آخرون، إنما يشغلهم التكتيك الذى سيتحركون به، فهم «ليسوا جماعة سياسية، بل حركة ثورية»، على حد وصفه. وهو ينتظر قليلا قبل أن يختم: «ربما فى المستقبل، يصبح لأمثالنا من الحركات الثورية حزبا يكون ذراعا سياسية لنا فى السلطة، لكن الأهم أن تبقى روح الثورة فى أقاليم مصر، لأن ذلك هو طريق التغيير».


العباسية مش تكية: هدفنا سمعة الحى وخدمة الثورة


فى العام 2010 التقت مجموعة من أبناء صفحة «العباسية كلها على الفيسبوك» لأول مرة فى أحد مقاهى الحى الشهيرة، ولم يدرك آنذاك كريم محمد (25 سنة) أحد مديرى الصفحة أن الثورة وتوابعها التى ستقع على مدار العام 2011 ستغير شكل علاقاته مع حى العباسية ومع الانترنت أيضا، وبدأ الأمر كما يشرحه قائلا: «القصة بدأت قبل عدة أشهر، حين ارتبطت سمعة حى العباسية بمؤيدى مبارك بسبب وقفاتهم عندنا، ولم يكن من السهل علينا أن نسمع عبارات من نوعية: آه إنت من العباسية؟ أيوه بتوع المجلس العسكرى». ما يرويه كريم دفعه مع زملائه قبل عدة أشهر إلى اتخاذ مواقف متتالية، كان آخرها تأسيس حركة تحت عنوان «العباسية مش تكية»، لكن قبلها كانت هناك خطوات متتالية. يقول كريم محمد: «كانت لتحركنا دوافع مرتبطة بالحى، إذ إن لدينا شهداء من أبناء العباسية، وهناك من تطوعوا فى المستشفى الميدانى أثناء الأحداث المتتالية.. هذه هى حقيقتنا»، ومن هنا كانت البداية حين لم يجد هؤلاء الشباب وسيلة فى أيديهم قبل أربعة أشهر سوى الصفحة التى يديرونها تحت اسم «العباسية كلها على الفيسبوك»، فأعلنوا عن مسيرة باسم العباسية مش تكية، وتضامنت معهم جبهات وقوى سياسية وأفراد.
يضيف كريم: «كانت النقطة الفاصلة فى ذلك الوقت حين وجدنا أحمد سبايدر فى ديسمبر الماضى يطوف الحى بمكبرات صوت لحشد الأهالى فى فاعلية معادية للثورة، كل هذا استفزنا، خاصة أن هناك من أهالى الحى من تصدوا له آنذاك». الأمر اليوم يختلف عن تلك الذكريات إذ أصبح لهؤلاء الشباب بعد هذه المبادرة دور فى التواصل مع العديد من الحركات الثورية والسياسية، خاصة أن مسيرتهم الأولى فى ديسمبر الماضى أحدثت نقلة فى أداء الصفحة ورفعت عدد الأعضاء إلى قرابة 18 ألف عضو. ولم تكن مسيرة «العباسية مش تكية» سوى بداية لتحويلها إلى حركة بعد ازدياد عدد المتفاعلين مع الفكرة من أبناء الحى. فى أثناء حديثه يبدى كريم محمد، الذى يعمل فى مجال إدارة الأعمال، حرجا دائما من أن ينفرد بالحديث عن الصفحة وقصة انخراط نشطائها فى العمل الحركى، وكان حريصا على أن يذكر أسماء زملائه «سمر ورامى ومحمود» وغيرهم... كذلك فعل أحمد أيوب (28 سنة) زميله فى الحركة الناشئة «العباسية مش تكية»، ولم تكن مفاجأة أن تكون زوجة أحمد هى سمر إحدى مؤسسات صفحة «العباسية كلها على الفيسبوك»، التى كانت الداعية الأولى لمسيرة «العباسية مش تكية». ويقول أحمد أيوب: «نحن مثل شباب كثيرين كنا نشارك فى الأحداث المختلفة منذ جمعة الغضب مرورا بكافة الفاعليات الاحتجاجية، لكن مع الوقت أصبحنا نتصل بمجموعات ثورية وسياسية، خاصة أثناء تنسيق مسيرات قريبة من العباسية، وهنا كان علينا أن يكون لنا كيان واضح المعالم، وليس مجرد صفحة على الانترنت، وذلك حتى تتضح أيضا معالمنا داخل العباسية وسط أهلنا». أحمد أيوب كان بطل فيديو انتشر على الانترنت من فبراير الماضى، يواجه فيه الشرطة العسكرية ويخاطبهم بنبرة ثورية توضح سبب وجود المتظاهرين فى هذا المكان بين ميدان العباسية ووزارة الدفاع، وذلك بعد أحداث استاد بورسعيد، وهو يعلق قائلا: «فى نهاية الكليب ستسمع صوت أحدهم وهو يتحدث معى، المفارقة العجيبة أن هذا الشخص كان أحد أنصار توفيق عكاشة فى العباسية، ومعارضا شديدا لنا، وبعد عدة مسيرات ثورية ناحية العباسية بدأ موقفه يتغير حين اقترب منا». لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كان حضور بعض أعضاء الحركات السياسية إلى العباسية فى ضيافة «حركة العباسية مش تكية» سببا فى حوارات مع بعض أهالى الحى المتشددين فى عدائهم للمتظاهرين، وأسفر ذلك عن تغيير وجهة بعضهم بعد نقاشات مفتوحة.
صفحة «العباسية كلها على الفيسبوك» تضم اليوم آلاف الأعضاء بينهم مجموعة صغيرة تلتقى بشكل منتظم، وهناك يطرحون أفكار مبادرات أو تنسيقا مع حركات أخرى أو حتى أفكار عمل خدمى، وهو ما قام به بعض أعضاء الصفحة عقب الثورة، يشرح كريم محمد: «أحد الشباب بادر فى مرة بشراء فواكه وخضراوات من سوق العبور لبيعها بسعر رخيص لخدمة الحى، لكن المشروع توقف لعدم التفرغ». مثل هذا التواجد فى العباسية، جعل البعض من أبناء الحى يتذكر كريم ورفاقه، بسبب ملاحظتهم فى المسيرات التى يديرونها أحيانا بأنفسهم، لكن لهذا الأمر ضريبة أخرى فما زالت هناك فى الحى جماعة تستهدف أى عمل ثورى فى العباسية، وتتبع شخصيات معادية للثورة، كما يقول كريم: «نحن من الحى، وأهل مكة أدرى بشعابها، وقد أصبح الآن اللعب على المكشوف، وفى النهاية نحن أبناء العباسية، ونحن أحرص على مصلحة سكانه»، لم يختلف أحمد أيوب كثيرا عن ذلك الرأى، إذ ينقل عن زملائه فى العباسية رأيهم فى صفحتهم على الفيسبوك، قائلا: «طوال الفترة الماضية، اكتشفنا من الاختلاط بالآخرين على مدار أحداث الثورة بأن لدينا مواهب وأفكارا وإبداعا، وتعلمنا التواضع حين وجدنا من هم أفضل منا فى الميادين، لذا.. اخترنا الثورة ودعمها من خلال العباسية».



الاتحاد قوة.. أحيانًا


يبدأ أحمد الجناينى حديثه بحماس عن تجربة «اتحاد الصفحات الثورية»، وما إن ينخرط فى التفاصيل حتى يصاب بالمرارة، ويصف ذلك بقوله: «قامت فكرة الاتحاد مبكرا أثناء فترة التحضير لفاعليات 25 يناير الأخيرة، وذلك على أمل إحياء الثورة، لكنى أرى الاتحاد اليوم قد انتهى إلى صفحة على الانترنت وأحاديث طويلة بين المنسقين». داخل موقع الاتحاد خدمة إخبارية وبيانات أصدرها فى الفترة الماضية، عدا ذلك يبدو الأمر هادئا بعد آخر المسيرات الكبرى فى 11 فبراير (ذكرى التنحى). وعلى شبكة فيسبوك الاجتماعية هناك عدد من التجارب الشبيهة، لكن تظل مساحة التنسيق على أرض الواقع هى الأكثر تأثيرا. هيثم الشواف ــ منسق تحالف القوى الثورية ــ يرى الأمر بصورة أكثر إيجابية، ويشرح: «حين قمنا بتأسيس التحالف كانت هناك العديد من القوى المشاركة، ولا أخفى سرا حين أقول إن هناك بعض الكيانات المريبة التى مرت علينا، لكن القاعدة على أرض الواقع شبيهة بالتعامل على الفيسبوك، فحين نواجه على الصفحة بأعضاء مريبين يستهدفون الاساءة وإفساد عملنا، يتم استبعادهم وكذلك الأمر بالنسبة للتحالف على أرض الواقع».
قبل أى فاعلية ينسق الشواف مع القوى المنضمة للتحالف، وخاصة مع المجموعات خارج العاصمة، ويرى أن استجابة تلك المجموعات تعطى زخما قويا لأى حدث. أما أحمد الجناينى الذى تعرّض للإصابة عدة مرات على مدار أحداث العام الماضى، فيرى أن العمل الحركى مرهون بأرض الواقع، وبعد عام من الثورة انضم مؤخرا إلى حركة 6 إبريل، بعد اعجابه بأدائهم وإخلاصهم ــ على حد قوله. أما حين يعود الحديث إلى هيثم الشواف منسق تحالف القوى الثورية، يقول: «بعد تجربة عام على الثورة، تولّدت لدينا قناعة بضرورة تغيير تكتيكات العمل الثورى على الأرض، وهو ما سنفعله قريبا».


Friday, March 2, 2012

شباب الاعلام والثورة خارج العاصمة

في المنيا: مواجهة بين جيل التسعينات و جيل 25 يناير
-
الشباب: نشعر بعدم جدوى المظاهرات في الحضر، و العمل الخيري و الدين يسيطران على الريف.
كتب - عبدالرحمن مصطفى
حين كان عصام خيري عضو الجماعة الإسلامية في المنيا حبيسا في المعتقل عام 94، كان أحمد خيري الناشط في حركة 6 إبريل (الجبهة الديمقراطية) لم يتجاوز الرابعة من عمره، لكنهما اليوم ناشطان سياسيان في محافظة المنيا كتفا بكتف، ويحمل كل منهما تجربة مختلفة عن الآخر، ومواقف قد لا تلتقي قريبا. "المظاهرات أمر مشروع ما دامت لا تخالف الشرع والمصلحة العامة، و قد قامت الجماعة الإسلامية بإعتصامات ومظاهرات من قبل، أما اعتراض أفرادها اليوم فهو على ما يحدث من مسيرات ينظمها الليبراليون و اليساريون دون إجماع بقية المجتمع". يقف عصام خيري الصحفي الأربعيني أثناء حديثه على بعد أمتار من ميدان بالاس – معقل الأعمال الاحتجاجية- حيث يقع أيضا مقر حزب البناء والتنمية الواجهة السياسية للجماعة الإسلامية بعد الثورة . في هذه المساحة الجغرافية يقع مسجد صغير، كان أهم معاقل الجماعة الإسلامية في التسعينات، حين كانت تستخدم العنف المسلح ضد الحاكم. و على مدار الأشهر الماضية أبدى أبناء الجماعة معارضة لفكرة العمل الحركي في مسيرات ومظاهرات، بل كونوا لجانا شعبية لحماية المنشآت العامة تزامنت مع بعض المسيرات والمظاهرات التي نظمتها قوى ثورية في المنيا، منها حركة 6 إبريل في المنيا. أما الحجة التي استند إليها عصام خيري فهي أن "الجماعة أرادت التصدي لأي محاولة من المندسين للتخريب أو السرقة، كما أن أبناء الجماعة كان لهم باع طويل في التصدي للخارجين عن القانون وفي اللجان الشعبية وقت الثورة".
لم يأت هذا الموقف في المنيا على مدار الأشهر الماضية خارج سياق موقف الجماعة الرسمي، إذ ذكر عاصم عبد الماجد المتحدث (المستقيل) باسم حزب البناء والتنمية معلقا على فعاليات 25 يناير الماضي أن 6 إبريل ينوون الحصول على ديناميت لعمل تفجيرات وإسقاط الدولة. وبعدها بأيام علق طارق الخولي المتحدث الإعلامي باسم حركة 6 إبريل (الجبهة الديمقراطية) بأن هذه الادعاءات كانت أسلوبا يتبعه أفراد الجماعة الإسلامية في التسعينات من تفجيرات وقتل، ورغم هذه التصريحات النارية المتبادلة إلا أن الأجواء في المنيا لم تسفر عن اشتباكات أو مواجهات بين الطرفين.

الإسلاميون مسيطرون
المسافة بين ميدان بالاس في المنيا حيث مقر حزب البناء والتنمية، ومدينة مغاغة تقدر بحوالي 70 كم شمال المنيا، هناك لم تختلف المشاهد كثيرا عن العاصمة المنيا، عدا مساحات واسعة ما زالت محتفظة بأصولها القروية في تخطيط الشوارع وطبيعة المنازل في مغاغة، وفي مقهى ذو طابع حديث، جلس أحمد خيري الناشط في حركة 6 إبريل (الجبهة الديمقراطية)، يبدأ حديثه قائلا: "الإسلاميون ليسوا المشكلة الكبرى التي تعيق الأنشطة الحركية من مسيرات ومظاهرات، فالحقيقة انه لم تحدث بيننا اشتباكات، المشكلة في عناصر أخرى" . أحمد خيري الذي لم يجاوز الخامسة والعشرين سنة بدأ العمل السياسي في فترة مبكرة حين شارك مع حزب الغد (القديم) متطوعا في حملة السياسي أيمن نور، أما اليوم فهو ناشط في الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي تأسس بعد الثورة.. يوقف حديثه ويدير حديثا سريعا مع أحد زملائه عن شؤون الحزب، ينته الحوار ليشير بعدها ناحية الشارع الرئيسي، قائلا: "أقمنا حملة كاذبون هناك في ذلك الشارع، وبمجرد أن بدأنا في عرض فيديوهات تدين المجلس العسكري توافد علينا البلطجية من كل حدب وصوب، وانتهى العرض سريعا ثم لجأنا إلى مركز الشرطة حتى ننه الموقف". هذه الأنشطة تعد جديدة على مغاغة، وتختلف ردود الأفعال الناس بين إعجاب ومشاهدة، وإدانة مباشرة، ولم تقع اشتباكات حقيقية خوفا من أن تتطور المشاكل بين عائلات المتظاهرين في المدينة الصغيرة.
ورغم ابتعاد عضو حركة 6 إبريل في مغاغة عن عضو الجماعة الإسلامية في مدينة المنيا، في المسافة وفي وجهة النظر، إلا أن القضية نفسها ما زالت تهم كليهما: هل من جدوى للعمل الحركي في مسيرات ومظاهرات في الشارع المنياوي؟ بعد عمل بدأه أحمد خيري منذ 2005 شارك خلالها في حزب الغد واتحاد الطلبة الحر في جامعة أسيوط وحركة 6 إبريل في القاهرة، لا يخفي اليوم إحباطه قائلا: "أشعر أحيانا بانعدام جدوى العمل الحركي حين أتذكر أننا في النهاية نعمل داخل الحضر، تاركين سيطرة الإسلاميين وسلطتهم على القرى الريفية بالعمل الخيري والدعاية الدينية، لكنني حين أتذكر أننا كنا نشارك في مظاهرات يحاصرها الأمن المركزي لا يتجاوز أفرادها 20 شخصا، وأنها كانت بداية تحريك الجماهير، وسقوط مبارك، أشعر بالأمل.. خاصة أن أغلب اعتماد العمل الحركي اليوم على الطلبة".
يترك المقهى متجولا في شوارع مغاغة التي تعتمد في مواصلاتها على الحنطور أو الموتوسيكل ويكشف عن أنه كان أحد المؤيدين لفكرة نزول شباب 6 إبريل للانتخابات رغم ما يتعرضون له من تشنيع، لكن الفكرة لم تلق قبولا لدى النشطاء، ويقول: "تعلمت من والدي درسا نقله لي أثناء صغري، حين حكى لي كيف كان إبراهيم شكري- رئيس حزب العمل السابق- يطوف بين البلدان للإشراف على تكوين الوحدات الحزبية في قرى المحافظات، لذا كانت لديه قواعد تنظيمية حقيقية"، هذا القلق من قلة الأعداد والأنشطة الحركية يدفع إلى مزيد من التنسيق بين جبهتي 6 إبريل وقوى ثورية أخرى في المحافظة. وكعادة المدن الصغيرة خارج العاصمة، تقل فرص الحصول على وسيلة انتقال بعد الساعة الحادية عشرة مساء، ولا يلتزم القطار بالمواعيد المحددة. أما في مدينة المنيا حيث عصام خيري- عضو الجماعة الإسلامية- فيكشف عن بعض ما رآه من تعذيب في سجون مبارك، ويرى أن التعامل القانوني هو الحل، واستغلال المؤسسة البرلمانية دون تصعيد في مسيرات أو مظاهرات. كان عصام يلعب منذ سنوات أحيانا مع بعض أبناء الجماعة دور الوسيط مع الأمن لتخفيف الضغط عليهم، تتبدل ملامحه حين يواجه باتهام عن أن هناك شريحة من الإسلاميين اختارت موالاة الأمن، و يعلق غاضبا: "لم يتضرر أحد من الأمن مثلما تضررنا في السنوات السابقة، لقد وصل الأمر أن يتلقى شخصا مثلي تعليمات بألا أحشد عددا من إخواني في حفل زفافي، لقد كانت أمامي فرص للانتقام من الأمن أثناء الثورة، لكننا اخترنا قرار منع العنف منذ سنوات".
وأمام مسجد الرحمن في مدينة المنيا ذي السمعة الشهيرة كمكان يجمع أبناء الجماعة الإسلامية، يروى عصام المزيد عما تعرض له من ضغط منذ أن كان طالبا في كلية العلوم قبل أكثر من عشرين سنة. كان أحمد خيري- الناشط في حركة 6 إبريل (الجبهة الديمقراطية)- قد قال في مغاغة إن "رفض الإسلاميين للعمل الحركي في الشارع والضغط من أجل التغيير هو خوف من منافس قد ينتزع منهم السلطة"، لكن عصام خيري يجيب بنبرة هادئة تحمل تشكيكا في نوايا بعض الجبهات الثورية، قائلا: "لماذا لم يكتف المتظاهرون بميدان التحرير؟ لماذا أصبحنا نجدهم أمام وزارة الداخلية، ومبنى ماسبيرو إلا إن كانت هناك نية سيئة؟". رغم ما يقوله إلا أنه لم يمنع نفسه من الابتسام حين علم أن شريحة من الذين اقتحموا مبنى أمن الدولة في مدينة نصر قبل شهور طويلة كانوا من أبناء الجماعات الإسلامية، ويختم بعبارة: "لا أعلم ربما لو كنت معهم لاقتحمت.. لكن كل معارضتنا الآن للمسيرات والمظاهرات هو خشية أن تحتكر فئة واحدة المشهد وتلجأ للتخريب والاقتحام لحسابها".
**
الفرصة لا تتجه جنوبا
- البعض اختار وظائف خارج مجال الاعلام والبعض الآخر ينتظر
- الانترنت كنز لم يكتشف بعد داخل المحافظات

في قاعة التدريب تجلس ماريان مدحت بشغف باحثة عن فرصة تنسيها تجربتها بعد التخرج العام الماضي من قسم الاعلام بجامعة المنيا، موضوع الورشة التدريبية : الاعلام الجديد والصحافة. يشتبك زملاؤها من حولها حول كيفية استخدام الانترنت كبديل عن الاعلام التقليدي الذي درسوه في الجامعة، تقاطع قائلة: "لم أعد أعرف جدوى دراسة الاعلام في الجامعة .. لم نمارس الخبرة العملية في ستوديوهات الكلية، ولم نحصل على تدريب حقيقي خارج الكلية، ولا سبيل سوى الاتجاه إلى القاهرة وخوض المغامرة".
رغم تلك المصاعب التي ترويها إلا أنها ما زالت متمسكة بأن تعمل في تخصصها الأساسي بشعبة الإذاعة والتلفزيون، وتحديدا في مجال الإخراج على عكس بعض زملاء دفعتها الذين اتجهوا إلى العمل في تخصصات أخرى مثل التسويق ورياض الأطفال. على مدار العام الماضي خاضت ماريان تجربة الانتقال إلى القاهرة والبحث عن عمل مع زميلاتها، كما تدربت فترة كمساعدة مخرج في مجال الدراما، حيث واجهت شريحة مختلفة ترى مجتمع الصعيد مثلما تصوره مسلسلات الدراما الصعيدية، وما زالت تبحث عن فرص حقيقية. حسب عبارتها : "عايزه أعرف حتى لو كان الطريق ده آخره الفشل .. بس أكون عارفة".
تضم قاعة التدريب، الذي نظمته مطرانية الأقباط الكاثوليك، طلبة وخريجين من قسم الاعلام بكلية الآداب في جامعة المنيا، يتحدثون بنبرة واحدة: "الصعيد مهمش، والقاهرة تبتلع الفرص كلها". أحد العاملين في تلفزيون شمال الصعيد كان حاضرا بينهم و دافع عن مؤسسته بحجة أن رئيس التلفزيون قد أكد في تصريحات سابقة أنه سيتيح الفرص أمام الطلبة لمزيد من التدريب، و أرجع التقصير إلى الجامعة.
تستمر النقاشات وتأتي تعليقات من نوعية: ما أهمية موقع مثل تويتر في تسجيل الأحداث الجارية بالمنيا؟ ندى مختار- طالبة الفرقة الثالثة في اعلام المنيا- لم تتسرب إليها نبرة اليأس، اختارت العمل بموقع إخباري محلي على أمل القضاء على الاحساس بانعدام جدوى دراسة الاعلام، و تقول: "رغم أني لا أتلقى تدريبا حقيقيا على الصحافة، لكني أعمل على تنمية مهاراتي في مساحات أخرى داخل الورش التدريبية، وعلى فكرة ليس هناك فارق كبير بين فرص الشباب والبنات، المشكلة الحقيقية هي غياب الفرص نفسها". يتدخل أحد زملائها ليروي قصة المظاهرة التي قادها الطلبة في أعقاب الثورة بأسابيع من أجل تحويل قسم الاعلام بكلية الاداب إلى كلية مستقلة للإعلام في جامعة المنيا، لكن ذلك لم يحدث رغم تطمينات الجامعة في ذلك الوقت، وحتى العام الماضي كان الدكتور حسن علي يعمل رئيسا لقسم الإعلام في كلية الآداب، قبل أن يعار حاليا إلى إحدى الجامعات الخاصة. وبعد سنوات من العمل تكونت لديه وجهة نظر عن دراسة الاعلام بشكل عام في مصر، ويعلق على ذلك قائلا: "في حالة تحويل قسم الإعلام إلى كلية قد يأتي ذلك بميزانية أكبر، لكنه سيزيد من المشكلة بالنسبة للطلبة، مع ازدياد أعدادهم، إذ تقول الأرقام أن لدينا في مصر 12 قسم للاعلام في كليات الاعلام، و6 أقسام في الجامعات الخاصة، و8 أقسام في كلية التربية، إضافة إلى الكلية الأقدم في جامعة القاهرة، وأرى أن ذلك مهزلة".

صحافة شعبية
"الحقيقة أن محافظة المنيا قد نالت اهتمام مشروعات التنمية في مصر مقارنة ببعض المناطق المهمشة والأكثر فقرا في محافظات أخرى، هذا ما ألاحظه في جولاتي التدريبية"، يتبنى هذا الرأي كمال نبيل مدير مركز دعم التنمية والتأهيل المؤسسي، و أحد المدربين على استخدام الاعلام الجديد كبديل عن الاعلام التقليدي. وبنبرة واثقة يتحدث عن أن الفرص متاحة على الانترنت لمن يستغلها، إذ يمكن إنشاء مدونة يتم تحويلها إلى صحيفة إخبارية تجتذب إعلانات المنشآت التجارية في المدينة، وهناك تجارب شبيهة في الوجه البحري، وبشراء كاميرا لا يتجاوز سعرها 1200 جنيه يمكن تسجيل تغطيات والتقاط صور بل و بيعها عبر مواقع على الانترنت. تلك الاقتراحات كانت تواجه أحيانا عبارات من نوعية: المنيا مافيهاش أحداث مهمة.
يرد كمال نبيل على ذلك بأن عدد من كانوا يتابعونه على موقع تويتر زاد عن ألف شخص بعدما نقل تفاصيل حادثة جرت في قطار قادم من المنيا، و يتابع قائلا: "كل من على الانترنت سيهتمون بالخبر ما دام جذابا ومثيرا للفضول، النقطة المهمة أن تضع في ذهنك لمن توجه معلومتك؟". في السنوات الماضية كان مفهوم المواطن الصحفي و الصحافة الشعبية قد راج في عالم الاعلام التقليدي، خاصة بعد انتقال صحفيون ذو خلفية لها صلة بالتدوين على الانترنت إلى بعض المؤسسات الاحترافية الإعلامية، وبالعودة إلى قاعة التدريب فهناك هاجس لدى جميع الحاضرين عن أن بعض القاهريين يرون مدينتهم المنيا وكأنها بعيدة عن التحضر وهو ما أرادوا نفيه حتى لو باستخدام الإعلام الجديد، مع اعترافهم بأن المنيا ما زالت ذات طبيعة محافظة مقارنة بالعاصمة، ينتشر فيها الخبر سريعا، لكن هذا الطابع اختلف تماما عن سنوات سابقة إذ "كان طلبة الإعلام يقادون إلى مراكز الشرطة بسبب ضيق الناس بمشروعات تخرجهم حين يصورون في الشارع"، على حد قول الدكتور حسن علي- أستاذ الاعلام. ويتفق معه المدرب كمال نبيل في أن المستقبل للانترنت، وأن إذاعة على الانترنت يمكنها أن تأتي باعلانات وسمعة طيبة تكون بداية إعلامي ناجح.
هذه الأحاديث الوردية تداعب أفكار فتاة مثل ماريان مدحت خريجة الاعلام، خاصة بعد أن لمست الواقع الصعب في الحصول على فرصة عمل في مجالها، و أملها الوحيد هو الحصول على مزيد من الورش التدريبية وخاصة في صناعة الأفلام، لتصور أفلاما بنفسها تعبر عن مجتمعها الصغير.