عبدالرحمن مصطفى
«أيهما أفضل أن أجعل الطرف الآخر يشارك فى معالجة المشكلة أم أن أوجه إليه رسائل من طرف واحد؟» هكذا يرى محمد جاد الله الطريق الأمثل لمعالجة سوء الفهم الذى يتعرض له المسلم داخل المجتمعات الغربية، لم تعد الخطبة من وجهة نظره هى الحل الوحيد، خصوصا أنه لن يسمعها سوى المسلمين فى الغرب، يضرب مثلا بطريق آخر للوصول إلى داخل المجتمع الغربى بآخر ورشة تدريبية أقامها فى النمسا تحت عنوان «تاريخ الضمير»، اعتمد فيها على الربط بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية والحضارة المصرية القديمة وصولا إلى التاريخ الحديث والهدف حسب قوله: «استعراض منظومة القيم الإنسانية، وتعريف الغربى سواء كان طالبا فى المدرسة أو محاضرا أكاديميا بأن ما يعتنقه من مبادئ موجود لدى غيره، مما يخفف التوتر بين الشرق والغرب». يرأس محمد جاد الله مؤسسة «الجسر» للتسامح والسلام وأكاديمية التراث الحضارى المشترك والحوار. يلخص فلسفتها فى أهمية التركيز على تباين الثقافات وتأثير ذلك فى مشاكل الجالية المسلمة فى أوروبا، موضحا أن المشكلة ليست فى الأديان بقدر ما هى فى اختلاف الثقافات، والهدف من الورش التدريبية هو توضيح الوجه الحضارى للإسلام، بحيث يشعر الغربى باتصال مع الإسلام كدين وحضارة بعيدا عن أزمات الواقع الحالى الذى على الجميع تفهمه ووضع حلول له. وكى يتم الإعداد لمثل هذه الورش التدريبية لا بد من إعداد الشخص الذى يدير الورشة التدريبية كى يكون العمل احترافيا، فإلى جانب استخدام النصوص الدينية والآراء الفقهية المختلفة فى محاولة التعريف بوجهة نظر الإسلام، لابد من مهارات لإدارة هذا العمل، يعلق على ذلك قائلا: «أهم دراسة يفتقدها العاملون فى مجال الدعوة فى الغرب هى دراسة فض النزاعات والوساطة، أعترف أننى حين حصلت على دبلومة فى هذا المجال من معهد سالزبورج بالنمسا، تفتحت لى مجالات جديدة ورؤية أوسع وطرق مختلفة فى الوصول إلى الحاضرين، لم أعد أدير محاضرة، بل أتعامل مع جلسة نقاش واشتباكات فى الآراء وإدارة مفاوضات وإقناع أطراف مختلفة، فى هذا الموقف أكون الطرف المحايد، لا أتحدث من موقف المدافع عن الإسلام بل أبحث مع الجميع عن نتيجة واحدة ترضيهم، وهو ما لا يفعله كثيرون يعملون على تناول المشاكل بين الغرب والمسلمين». فى الورشة الأخيرة مارس محمد جادالله هذه المهارة بوضوح حين وقف فى القاعة وسط مجموعة من طلبة المدارس معتمدا على التفاعل بين الحضور وطرح الأسئلة والإجابة بواسطة تدريبات ذهنية تعمق الحوار وتشجع على التعرف على الطرف الآخر. كان العنوان الكبير هو «مفهوم التنوع» الذى نشط لدى الطلبة إحساسهم بتقبل اختلافات الآخرين وخصوصية كل دين مع التركيز على القيم المشتركة لدى جميع الأطراف. وسط هذا السعى يفاجأ أثناء عمله بأطراف أخرى قد لا تهدف حتى إلى الدعوة للإسلام بقدر ما تهدف إلى المناظرة والتحدى، ويعلق على ذلك: «هناك كارثة يعيشها المسلمون فى الغرب وهى أن المجتمعات الغربية أمامها صورة مشوشة تمزج ثقافة المهاجرين بالدين، خصوصا أن المراكز الإسلامية فى الغرب تتلقى تمويلها فى بعض الأوقات من دول إسلامية، وتروج كتبا ناتجة عن ثقافات الشعوب العربية والإسلامية، وكأننا نكرس للاختلاف، ولا نبحث فى المشترك بيننا وبين القيم والثقافة الغربية».
إرشاد دعوى
لم تأت تلك التجربة من فراغ حسب قوله بل بعد العمل على مدى 16 سنة فى مجال الإرشاد السياحى فى مصر، حين لاحظ محمد جادالله أن كثيرا من السائحين الأجانب يفتقدون إلى المعلومات الأساسية عن مصر والعالم الإسلامى، ما يجعلهم أسرى بعض الصور المضللة عن هذه المجتمعات. يقول: «فى مهنة الإرشاد السياحى أنت مقيد بأمر مهم وهو ألا تتجادل مع السائحين فى الدين أو فى السياسة، فليس هذا هو الزمان أو المكان المناسب لذلك». هكذا يصف قيود المهنة، وكأغلب زملائه احتفظ بهذه الملاحظات لنفسه واكتفى بالردود التى يجيدها المرشد السياحى المحترف، لكن الوضع اختلف بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بعد أن تأثرت حركة السياحة العالمية وبرزت صورة المسلم والعربى «كإرهابى». يعمل اليوم محمد جادالله إلى جانب عمله الرئيسى كمرشد سياحى فى مجال تطوعى اختار أن يقدم فيه ورشا تدريبية تهدف إلى إزالة اللبس لدى المجتمعات الغربية عن المسلمين، يشرح ذلك: «قبل خمس سنوات دعيت إلى أول ورشة أحضرها من هذا النوع بالتعاون مع هيئة الصليب الأحمر، وهى نفس الفترة التى كنت ألاحظ فيها الأزمة التى يتسبب فيها بعض الشيوخ الذين يجيدون اللغات الأجنبية حين يتعاملون مع الأوروبيين بنفس منطق التعامل مع العرب». كانت الورشة موجهة إلى الفئات التى تتعامل مع «المريض المسلم» فى المجتمع النمساوى، وهناك رأى على أرض الواقع عالما مختلفا وقضايا أخرى يشرحها : «ذهبت وأنا أعلم جيدا أبعاد مشاكل المهاجرين المسلمين سواء كانوا عربا أو أتراكا وكذلك انغلاق بعضهم على نفسه.. فى هذه الورشة كنت أهدف إلى التعريف بالجانب الدينى لدى المسلمين خصوصا فى أوقات المرض وفى إجراءات الوفاة وكيف يتعامل الطبيب والممرض مع هذا الجانب الغامض بالنسبة إليه، دون تبرير المشكلات الثقافية التى تعوق الاندماج». بعد عدة ورش على نفس النمط تهدف إلى صنع جسر بين الشرق والغرب اكتشف محمد جادالله أن ما يحكم العلاقة بين الطرفين هو الخوف، ولاحظ ذلك فى مثال واضح يذكره: «أثناء أزمة الرسوم المسيئة بين العالم الإسلامى والدنمارك وجدت أن صورة المسلمين الذين أحرقوا السفارات فى مظاهراتهم الغاضبة قد غطت تماما على المجهودات التى بذلها المسلمون للتواصل أو التعريف بخصوصية احترام الأنبياء لديهم، بل استدعى هذا الحادث صورا أخرى مضللة من أرشيف الذاكرة مثل صور بن لادن وغيره من الشخصيات المخيفة للمجتمعات الغربية». بالتوازى مع هذه الورش المختلفة عمل على تعميق دراساته الإسلامية حيث يدرس الآن فى مرحلة الدراسات التمهيدية للماجستير، لكن تظل مهارات تنظيم الورش التدريبية والتدريبات الذهنية هى أساس المناقشة داخل هذه الورش التدريبية، ويقول: «أراهن على أن مستقبل الدعوة سيتغير باستخدام هذه المهارات التى لا تعتمد على شكل الداعية التقليدى الذى اعتدنا عليه فى المنطقة العربية». يطمح محمد جادالله الذى يفضل استخدام لقب (وسيط فى فض النزاعات) إلى تأسيس أكاديمية لتدريب الدعاة على آليات ومهارات فض النزاع والوساطة التى تمكن الداعية من أن يعرض قضيته بشكل ناضج يجتذب المجتمع الغربى، ويعلق على ذلك: «أراهن شخصيا على وجود نماذج مثل الدكتور أحمد الطيب فى مشيخة الأزهر فى تنمية هذا الاتجاه لدى الدعاة وتوسيع آفاقهم». يلقى عبارته مبديا عدم القلق من أن يكون ضيفا طارئا على مجال الدعوة موضحا: «يكفينى أن يرى الأوروبيون مجهوداتنا التى تعلى من شأن القيم الإنسانية الراقية الموجودة فى جميع الحضارات والأديان، وأن يربطوا ذلك بأننا مسلمين، فعلينا ألا ننسى الإسلام انتشر فى أرجاء كثير نتيجة إعجاب غير المسلمين بسلوكيات المسلمين وقيمهم الإنسانية العالية».
تعود فكرة دار الترجمة إلى العام 2003 بعد شهور قليلة من إنشاء منتدى عمرو خالد على الإنترنت، حيث نشطت الفكرة وقتها على يد نيرمين ومجموعة لا تتعدى الخمسة أفراد على المنتدى، فى تلك المرحلة تكونت روح المشروع الذى دعمه عمرو خالد فى سنوات تالية بعد أن رأى إنتاجه. فى تلك الفترة التى كان فيها أسامة بن لادن هو المسلم الأشهر على الساحة العالمية حين تصاعدت موجات التحريض ضد الإسلام اعتمد العمل على ترجمة مواد مفيدة موجهة إلى الغرب عبر الإنترنت. تقول نيرمين حسين : «بدأنا بترجمة حلقات برنامج عمرو خالد، ثم بعض مقالات الدكتور زغلول النجار عن الإعجاز العلمى فى القرآن». تصمت قليلا ثم تضيف: « قد أتعجب اليوم من قدرة الدكتور عمرو خالد على الوثوق فينا لهذه الدرجة فى ترجمة أعماله على الرغم من أننا لم نكن متفرغين وقتها، لكننا كنا مخلصين فى عملنا». اليوم تقوم الشركة بترجمة حلقات عمرو خالد لهذا الموسم فى عادة سنوية لم تنقطع لكنها اتخذت شكلا أكثر احترافية ووصلت إلى حد دبلجة بعض البرامج.
من الإنترنت إلى أرض الواقع
المجموعة التى تكونت فى البداية من دارسى اللغات والترجمة وجدت فى شعار «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» فرصة لتحقيق رغبتهم التى شحنتها كلمات عمرو خالد فى منتداه. تعلق نيرمين على ذلك : «جاءتنا إشارة بأننا على الطريق الصحيح حين تصادف أن تكون أولى حلقات برنامج عمرو خالد بعد ظهورنا عن الترجمة وأهميتها فى المجتمع، كما ازدادت أعداد الراغبين فى التطوع معنا خصوصا فى رمضان وتزايد دعم عمرو خالد لنا عاما تلو عام». على مدى تلك السنوات كان كل أعضاء فرق الترجمة فى منتدى عمرو خالد مستمرون فى أعمالهم الأصلية وفى دراستهم حتى ظهرت إشارات أخرى تدعو إلى مزيد من التقدم فى تطوير فكرة المشروع، تقول نيرمين: «عن نفسى كنت أعمل فى مجال الإدارة لمدة 15 سنة وصلت فيها إلى منصب جيد فى إحدى شركات السياحة، لكن كان الحلم والهدف الذى تعلق به المئات هو مشروع تأسيس شركة مساهمة باسم دار الترجمة، وكان جميع من تبنوا التجربة فى قلق عند بدء الخطوات الجدية. كان الأمر يحتاج منى مغامرة كى أترك عملى وأخوض هذه التجربة، وهو ما تم فى رمضان العام 2006، فلم يكن لهذا المشروع أن يستمر فقط على الإنترنت، كان قد حان وقت نقله إلى الواقع» فى رمضان من كل عام تحتفل الشركة بذكرى تأسيسها، واختار المؤسسون أن يحددوا رؤيتهم فى «أن تقوم دار الترجمة بدور رائد وفعال فى التبليغ الأمين لرسالة الإسلام الحقيقية إلى جميع البشرية بكل اللغات الحية الممكنة. وبالمثل أن تلعب دار الترجمة دورا رائدا فى تعريب العلوم والتقنيات الحديثة لأجل رخاء ورفعة كل الأمة العربية». بعد انطلاق الشركة ودخولها عالم الاحتراف زاد تكريس نمط حياة العاملين على قواعد محددة، ولقب العاملون فى دار الترجمة أنفسهم بلقب «الدارجميين» وكأنها تسمية تخفى ورائها مجموعة من القناعات والتجارب التى نقلت «فكرة» فى منتدى إلى مشروع حقيقى. وما زال الخط الذى اختارته المجموعة فى البداية يحرك المشروع تحت التأثير الدعوى لمنتدى عمرو خالد، فقد نما اتجاه التعريب لخدمة المجتمع فى ترجمة الكثير من الأعمال إلى العربية خصوصا فى مجال التنمية البشرية وغيرها، وآخرها كانت تجربة دخلتها دار الترجمة مع جوجل لترجمة 5،6 مليون كلمة أى نحو 21000 صفحة من موسوعة ويكيبيديا الأشهر على الإنترنت التى يرتادها الملايين، والهدف إتاحة مزيد من المعلومات العامة باللغة العربية لمتصفحى الإنترنت، حسبما تقول رئيس مجلس الإدارة فإن عدد العاملين والمساهمين فى دار الترجمة اليوم حوالى 520 فرد، والفاعلين منهم فى مجال الترجمة حوالى 300 فرد، أما الملاحظة الواضحة فهى أن غالبية أعضاء فرق الترجمة (16 لغة) من النساء، وتقدر بنسبة 80%. لكن الأساس الذى اجتمع عليه أفراد التجربة منذ البداية فرض عليهم ثقافة واحدة تجمع بين الحس الأخلاقى والجانب التنموى، توضح نيرمين حسين هذه النقطة قائلة: «رغم أننا حققنا اسما طيبا فى مجال الترجمة وحققنا تواجدا كبيرا إلا أن الأهم هو الحفاظ على خصوصية هذا المشروع، يحصل الشباب من (الدارجميين) على ورش تدريبية فى الإدارة والتنمية البشرية، إلى جانب الأنشطة الموجهة إلى تدريب أبناء دار الترجمة من الأطفال». على موقع دار الترجمة صور الرحلات والحفلات التى قضاها الدارجميون معا فى فترة مبكرة حتى قبل تأسيس الشركة، لكن الفرق فى هذه الصداقة أنها تحولت إلى مشروع ناجح، تقول نيرمين: «بعض أبناء العاملين فى دار الترجمة أجدهم على نفس خطواتنا الأولى ويحملون نفس الروح، وهو ما يجعلنى شخصيا أتفاءل باستمرارية هذا المشروع بأيدى الأجيال القادمة، التى نتعمد أن نربطها بالمكان قدر الإمكان».
No comments:
Post a Comment