Thursday, November 4, 2010

سنة أولى قاهرة

بعض من انتقلوا إلى القاهرة ظلوا محتفظين بانطباعاتهم الأولى عنها حتى إن تبدلت أحوالهم وصاروا قادة فى الفكر والسياسة. أحدهم وفد إلى القاهرة فى بداية القرن الماضى من أجل الدراسة فى الجامع الأزهر، لم يكن مبصرا كى يرى بعينيه مشاهد يختزنها داخله لكنه بعد سنوات طويلة تحول إلى عميد للأدب العربى، يذكر طه حسين فى كتاب الأيام (مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992) أن القاهرة كانت بالنسبة إليه «مستقر الأزهر، ومشاهد الأولياء الصالحين»، وحسب عبارته فلم يكد يصل إلى القاهرة «حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء»، ذلك المزيج أنتج عالما وأديبا فى شخص واحد.
وفى كتابه «الأيام» الذى دون فيه ذكرياته يسجل فصولا عن تجربة الانتقال من الريف إلى المدينة فى الصغر، حيث افتقد مهابة العلم فى الريف التى نشأ عليها، وبعد سنوات من هذه الرحلة ووصوله إلى منصب وزير المعارف فى العام 1950 عاد طه حسين إلى القضية نفسها، التى عانى منها فى صغره بعد انتقاله إلى القاهرة، داعيا إلى مجانية التعليم وأن يكون «مثل الماء والهواء» بين الناس.
تلك المفارقات التى خلقها التنقل بين الريف والمدينة فى الصغر صنعت قضايا لشخصيات أخرى كانت أكثر نفوذا، منها شخصية الرئيس السادات، إذ وفد هو الآخر فى صغره إلى القاهرة، وظل تأثير الاختلاف بين قريته «ميت أبو الكوم» فى محافظة المنوفية وأحياء القاهرة عالقا فى ذهنه، حتى دونه فى مذكراته التى كتبها تحت عنوان «البحث عن الذات» (المكتب المصرى الحديث، 1979).
ورغم أنه قضى سنوات فى الخدمة العسكرية والحياة داخل القاهرة وخارجها فإن تمسكه الشديد بالجذور الريفية انعكس إلى حد ما على سياساته فى ذلك الوقت أو حسبما ترى الدكتورة سلوى شعراوى جمعة فى كتابها الدبلوماسية المصرية فى عقد السبعينيات، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1988)، فإن السادات كان يحرص على أن يقدم نفسه كعمدة فى أدائه السياسى، وقد انتقده محللون آخرون على استخدامه تعبيرات من نوعية «أخلاق القرية» أو «العيب» فى خطابه السياسى.
وتكشف مذكرات الرئيس الراحل بعض هذه الأسباب، وخاصة فيما سجله من انطباعات أولية عن القاهرة فى قوله: «هكذا كانت حياتى طوال مدة تعليمى بالقاهرة، سلسلة من المقارنات أو المفارقات بين المدينة والقرية.. لكنها لم تكن فى أى وقت فى صالح المدينة بأى حال من الأحوال، على العكس أشياء كثيرة أزعجتنى فى القاهرة»، هذه الفقرة قد تعبر عما اختزنه الرئيس الراحل نتيجة انطباعاته عن القاهرة وكيف حاول نقل هذا إلى خطابه السياسى.
النشأة القاهرية التى يعيشها أطفال لا ينتمون إلى المدينة لم يمر بها الرئيس السادات وحده بين الزعماء العرب، بل عاشها الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، إذ عاش فى بيئة قاهرية تشكلت فيها نواة حياته القادمة، وفى كتاب «من القلب هوى فلسطين» (تيميلى دومى لون جنيف باريس 2009) تنقل المؤلفة إيزابيل بيزانو عن شقيقة الرئيس الراحل أنه كان يمارس دور القائد العسكرى مع أطفال الحى الذين كانوا يطيعونه.. وتنقل المؤلفة عن حارسة العقار الذى نشأ فيه أنه كان كثير التسكع فى شوارع الحى، لكن النشأة القاهرية الرحبة لم تكن سببا مباشرا فى ظهور زعيم فلسطينى، لكن أسبابا أخرى كانت هى الأهم على رأسها دور ياسر عرفات بين الطلاب الفلسطينيين فى القاهرة، وهو ما أهل بعضهم إلى أن يكونوا رفقاء نضال فيما بعد. وبعد سنوات من هذه الرحلة لم يبتعد «أبوعمار» عن القاهرة وحتى وفاته ظل فى مرتبة الزعامة مثلما كان يقوم بالدور نفسه فى شوارع حى السكاكينى بالقاهرة.

**

«الإسكندرية فى الزمن يمتد عمرها لأكثر من ألفى عام، والقاهرة فى الزمن يمتد عمرها لألف عام، ومع ذلك تبدو القاهرة دائما أقدم من الإسكندرية.. لماذا؟ هذا هو السر.. الإسكندرية مشبعة بندى الصباح من البحر، مشبعة باليقظة». من كتاب «غواية الإسكندرية»، (مكتبة الأسرة 2005).
قد لا يجد البعض مثل هذه العبارات البليغة التى اختارها الروائى إبراهيم عبدالمجيد للتعبير عن انتمائه لمدينة الإسكندرية ومقارنتها بالقاهرة، قد يكون البديل لدى من هم أقل فصاحة فى عبارات من نوع آخر، تكثر مثل العبارات، التى نجدها على الانترنت حيث المساحات الرحبة لتسجيل جميع الانطباعات، حتى إن كانت أقل عذوبة. على موقع «جوجل» داخل قسم خدمة الإجابات الذى يرتاده أصحاب الأسئلة المتنوعة طرح أحدهم سؤالا: ما الفرق بين القاهرة والإسكندرية فى الأجواء الاجتماعية والسياحية؟ فتوالت الإجابات على شاكلة: «الإسكندرية أرقى من القاهرة، القاهرة كلها زحمة»، وإجابات أخرى لا تخلو من المرح مثل «قاهرة مين والناس نايمين بعد الإسكندرية مفيش». وعلى مواقع أخرى تأتى الإجابات بالنبرة نفسها، التى تمجد الإسكندرية على حساب القاهرة، مثل عبارة ألقى بها أحدهم يقول فيها: «الإسكندرية روعة المفروض هى اللى تكون العاصمة»! مثل هذه العبارات يكتبها العابرون داخل الانترنت بحرية أكبر من الواقع، سواء داخل شبكة الفيس بوك الاجتماعية أو فى مدونات على الانترنت.
«هناك مبالغات فى إسباغ صورة مثالية للإسكندرية بشكل قد يثير السخرية فى بعض الأحيان، خاصة أن أغلب كاتبى هذه العبارات على الإنترنت من الشباب، ولم يعيشوا حين كانت المدينة متعددة الثقافات والجنسيات»، العبارة لهيثم الشاطر الطالب فى كلية هندسة بجامعة الإسكندرية.
اختار هيثم قبل سنوات أن ينشئ مدونة تحت عنوان «بنيكة شاى»، ولم يخف اتجاهه منذ البداية فى الكتابة عن الإسكندرية وتفاصيلها، بداية من اختيار اسم مدونته الذى يعنى بالعامية «نصبة شاى»، انتهاء باختيار موضوعات تتناول حياة المهمشين والمواطنين العاديين فى المدينة. لا يخفى هيثم انطباعاته عن القاهرة إذ يرى أن الحياة بها «رديئة وتثير الدهشة خصوصا لمن لم يغادر الإسكندرية من قبل». قد تبدو عباراته هادئة مقارنة بآخرين سجلوا انطباعات ساخنة عن زياراتهم لمدينة القاهرة، فقبل عدة أعوام اشتهرت إحدى المدونات يحررها مجموعة من الشباب السكندرى اختاروا أن يكون عنوانها «إسكندرانية». وكتب أحدهم قبل عامين عن انطباعات شاب سكندرى عن القاهرة قائلا: «عارف إن مميزات القاهرة أكتر من إسكندرية بكتير بس فى نفس الوقت عارف إنه كإسكندرانى أصيل عيب أوى إنه يفارق البحر ويروح يعيش فى الزحمة والتلوث والدوشة والوشوش المتعصبة فى الشوارع»، بينما كتب آخر عن كرهه للسفر إلى القاهرة فى حين أنه مضطر الآن إلى العيش داخل هذه المدينة. هذه التجربة، التى خاضتها مجموعة من الشباب فى مدونة مشتركة، انتهت بفقدانهم الحماس كى يواصلوا التدوين عن الموضوع نفسه، واستمرت هذه المناقشات حول الموضوع نفسه بواسطة آخرين فى ساحات الفيس بوك. وأحيانا ما تحتد النقاشات بين من هم أكثر حماسا للإسكندرية ضد القاهرة، وهو ما لفت أنظار البعض لهذا النقاش.كان أحد هؤلاء الكاتب الشاب محمد ربيع الذى كتب على مدونته فى مرات متفرقة عن أحياء القاهرة، واضطر فى أوقات أخرى إلى الدخول فى هذا الجدل الذى أسفر عن نتائج مختلفة، إذ يقول: «كنت أتابع مدونة إسكندرانية التى كانت تمثل ظاهرة وسط المدونات قبل عدة سنوات، وكنت أتقبل انطباعات كاتبى هذه المدونة، وربطتنى صداقة ببعضهم، لكن ما لفت نظرى هو الحفاوة الشديدة بالكلمات السكندرية وأحاديث الحنين لمن هم فى اغتراب».
لم يكن محمد ربيع وحده الذى يتابع كتابات الشباب السكندرى عن نفسه، فقد فرضت المدونات حالة من التنوع جعلت الجميع يطلع على الجميع، لكن مع التحول إلى الفيس بوك أصبحت طريقة التعبير أكثر اختصارا وأشد قوة. وهو ما لفت نظر البعض إلى تعليقات كثيفة تجاوزت حد التعبير عن الانتماء إلى الإسكندرية وأصبحت أقرب إلى الهوس، وتأسيس مجموعة تحمل روح المبالغة فى التعبير عن الهوية، بل وأحيانا استخدام عبارات معادية للقاهرة، خاصة لمن اضطر إلى العمل أو السفر إلى القاهرة. يقول محمد ربيع: «فى الانترنت أحيانا ما يتيح المجال للادعاءات». فى مدونته القديمة كتب ربيع نصا ساخرا عن هذه المبالغات فى التعبير عن حب الإسكندرية، ولاقى إعجاب أصدقائه القاهريين والسكندريين على السواء. لكن بعيدا فى مجموعات أخرى على شبكة فيس بوك الاجتماعية انشغل آخرون بقضايا أخرى، خاصة ما يحدث للمدينة على أيدى زوار المدينة. وفى مجموعة تحت عنوان: «ارحموا أهل الإسكندرية يرحمكم الله»، يعرض مؤسس المجموعة لقطة أخرى تفسر حساسية البعض، ويقول: «معظم شقق الإسكندرية على البحر مغلقة لأن ملاكها من خارجها لا يأتونها إلا أياما معدودة، فهل هذا يجوز بالله عليكم.. تعالوا إلينا زائرين سنحملكم فوق رءوسنا فليس شرطا أن تكون من ملاك الإسكندرية، ارحمونا يا أهل الأقاليم يرحمكم الله فكفا ما عندكم من أطيان فى ريفكم فلا تضيقوا علينا وتهجرونا من مدينتنا الحبيبة التى هى أغلى عندنا من أرواحنا»، هذه الحساسية، التى تظهر تجاه زوار المدينة تختلف عن حالة الإعجاب بصورة متخيلة عن المدينة حيث ترتبط الأذهان بعالم الخواجات وصيادين بحرى والعمارات ذات الطرز الغربية.
يرى هيثم الشاطر أن التعصب لصورة غير واقعية للمدينة أمر غير واقعى، فالإسكندرية حسب رأيه هى مدينة معقدة، فيها مناطق لا تمت بصلة لصورة المدينة الحالمة ذات الطابع الأوروبى، بل إن أغلبية السكان ليس لديهم شعور قوى بالانتماء للمدينة، وحتى بعض الأحياء ذات السمعة الأسطورية مثل المنشية وبحرى ووسط البلد قد أصبحت جزءا من الحياة اليومية ولا تختلف عن القاهرة إلا فى مستوى الزحام، ويعلق قائلا: «أركز فى الكتابة عن المناطق العشوائية واستخدم لغتهم الحادة.. لا أقدم مدينة تعيش فيها الجاليات القديمة ممتعضة من الوضع الحالى، لأن ذلك بعيد عن الواقع، وأغلب ردود الأفعال التى أتلقاها داعمة لهذا النهج فى رصد أحوال المدينة بهدف تصحيح صورتها المغلوطة فى الأذهان».
فى كتابه «غواية الإسكندرية» يضع الكاتب إبراهيم عبدالمجيد حلا يرضى جميع من انشغلوا بهذه المدينة، سواء بالدفاع عن صورة فى أذهانهم أو بتحطيم صور نمطية أخرى، إذ يقول: «ستجد سكندريات.. لكل سكندريته، وكل سكندرية متجاوزة للحقيقة وأحيانا بل غالبا للخيال المتاح».