Wednesday, May 7, 2014

التغطية الميدانية.. طريق مفروش بالأشواك



- حيرة الصحفي بين سؤالي السلامة والنزاهة 


كتب – عبدالرحمن مصطفى

من أتعس المهام التي قد توكل إلى صحفي، أن يعمل وسط طرفين اتفقا على استبعاده من المشهد، خاصة أن وسيلة الاستبعاد قد تصل إلى التصفية الجسدية.

“تخيل أنك وسط اشتباكات بين الأمن وأنصار جماعة الاخوان المسلمين، وعليك أن تحدد سبب الاشتباكات، وأن تحصي عدد الضحايا من الطرفين، وكلا منهما لا يبدي تعاونا معك، إن لم يبد رفضا لوجودك” هذا ما يصفه أحمد البرديني الصحفي الشاب في جريدة الشروق، حيث اعتاد أن يقدم تغطية ميدانية لجريدته، محاولا ألا يعود إلى منزله مصابا.
في تلك الأجواء.. يصبح الحصول على المعلومة، أقرب إلى مغامرة، قد لا يقدرها البعض، إذ تتحكم أجواء الاستقطاب، والتحفز، في مساحات تدقيق المعلومات، والسلامة الجسدية.

في العام الماضي، تعرض 7 صحفيين للقتل أثناء تأديتهم لعملهم في جمع المعلومات من أماكن الاشتباكات، وتعرض عشرات آخرون من زملائهم لإصابات واعتداءات حسب تقرير حالة حرية التعبير في مصر، الصادر عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير.

هذا الواقع ما زال مستمرا في العام 2014، حيث بدأت تتشكل طبيعة جديدة للعمل الصحفي في مصر. حيث يتساءل المتلقي سواء كان متصفحا للجرائد اليومية أو متابعا للقنوات التلفزيونية، هل هذه هي الصورة الكاملة للحدث؟ ما الذي يحدث أمام جامعة الأزهر؟ ما سر التفجيرات المتتالية؟ وكيف تتطور مسيرات جماعة الاخوان كل يوم جمعة إلى أعمال عنف دامية؟ وهنا يخوض صحفي مغامرة، قد تكلفه حياته، وسط أعباء عديدة، أهمها، أنه ضيف غير مرغوب فيه داخل هذا الحدث، وأن المزاج العام، والسياسة التحريرية للمؤسسات، تنتظر قصة معروف نتائجها من قبل.

في شهر أبريل الماضي، دعت نقابة الصحفيين المصرية إلى الإضراب الفوري عن تغطية كل الأحداث الميدانية الخطرة لأجل غير مسمى، وقد استجابت بعض الصحف في مقاطعة مظاهرات الجمعة التالية، احتجاجا على استهداف الصحفيين في أماكن الاشتباكات، ورغم استمرار دولاب العمل في الدوران والعودة إلى أخبار الاشتباكات من جديد، إلا أنها دعوة كشفت عن مزاج جديد، حين يضحي الصحفي بتقديم المعلومات عن حدث بعينه، حتى يحمي نفسه في المستقبل، وهو ما قد يؤثر على وصول المعلومات إلى المتلقي، فلا يجد أمامه سوى مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الاخبارية المحسوبة على أحد طرفي النزاع لينقل عنها ما غاب من تغطية.

يصف خالد البلشي عضو مجلس نقابة الصحفيين المصرية هذه الدعوة بأنها كانت بمثابة صرخة احتجاج، على أمل أن تصل إلى كافة الأطراف المقصرة، وأن تتم محاسبة المسؤولين عن أزمة الصحفي الميداني، سواء كان ذلك يدين أطراف من جانب الشرطة أو من جانب المتظاهرين.

هذا ما تدركه هدير محمود المصورة في الوطن في كل مهمة تغطية مع زملائها، إذ تدرك أن كل طرف من طرفي النزاع يمكنه ببساطة اتهام الآخر في دم صحفي أو مصور. “في الحد الأدنى من المشاكل، أتعرض لاعتداءات لفظية، دون محاسبة، وطرد من موقع الحدث، وتحرص المؤسسات الآن بشكل واضح على ألا تخسر المزيد من أفرادها نتيجة إصابات أو قتل، لكن الأصعب من هذا أنه لا يحدث تجريم لأحد، أو أن يتغير الموقف إلى الأحسن”.

هل يؤثر ذلك على عرض الحدث بشكل متكامل؟ هذا ما تتحكم فيه أزمة أخرى يواجهها من يعمل في الحقل الصحفي، وهو أن السياسة التحريرية أحيانا ما تتجه نحو جزء بعينه من المشهد، ذلك الجزء الذي يعبر عن موقف المؤسسة، في دعم أحد الطرفين.

تبدو مهمة صحفي التغطية الميدانية أشد صعوبة في وسط إعلامي يعج بالاستقطاب السياسي على حد وصف محمود علم الدين أستاذ الصحافة في كلية الاعلام بجامعة القاهرة، فمواقع التواصل الاجتماعي، تبحث عن العناوين الأشد سخونة لتداولها، كما لا تقدم المؤسسات الضمان الكافي للعاملين بها، أو على حد قوله: “أجد أن مبادرة نقابة الصحفيين في تدريب الصحفيين الميدانيين على قواعد السلامة المهنية، هي مهمة يجب أن تقوم بها الصحف بالدرجة الأولى”.

خاض أحمد البرديني الصحفي الشاب إحدى الورش التدريبية التي أقامتها نقابة الصحفيين المصرية مؤخرا، لكن الواقع الذي يراه في أماكن الاشتباكات، أشد تعقيدا من المحتوى التدريبي، فإحدى آخر أماكن التغطية التي حضرها، كان وسط متظاهرين مسلحين يشتبكون مع الأمن داخل منطقة عشوائية في حلوان.

"هذه خطوة أولى تقدم الأطر العامة للسلامة المهنية، ويمكن للمحتوى التدريبي أن يتطور في المستقبل، بل إن نقاشات الورشة نفسها، هي التي قد تكسب المتدرب مهارات جديدة، وأفكارا تفيده في عمله”. هذا ما تحدث عنه خالد البلشي عضو نقابة الصحفيين.

وبين أماكن اشتباكات تلفظ الصحفيين، ومزاج عام داخل المؤسسات الاعلامية، لا يحبذ تسليط الأضواء على اشتباكات جماعة تصفها الدولة بالإرهابية، تزداد مهمة الصحفي صعوبة.

التحقيق الاجتماعي.. رحلة صحفي بمزاج باحث


 
كتب – عبدالرحمن مصطفى

تتشابه مهمة الصحفي في إجراء تحقيق إجتماعي مع عمل الباحثين الاجتماعيين حين يدرسون “شريحة” من المجتمع من ناحية المستوى المادي والظروف المعيشية المختلفة، أما الهدف الذي يسعى إليه الصحفي فهو الإجابة على سؤال يطرحه حول ظاهرة بعينها.
ليس مطلوبا من الصحفي أن ينقل إلى القاريء إحساسا بالبؤس والشفقة تجاه الشريحة التي يدرسها مثلما يحدث في كثير من التحقيقات الاجتماعية، فبإمكان المهمشين أن يكونوا سعداء، كأن يكون التحقيق الصحفي عن موسيقى المهرجانات الشعبية، والبحث عن لماذا ظهرت؟ وكيف نمت في مناطق شعبية بعينها؟ وما الشريحة التي صنعتها ؟ أما التعرض للظروف البائسة لشريحة من المجتمع، فيجب ألا يكون هدفا، حتى لا يتسبب الصحفي في مزيد من التهميش للشريحة التي يدرسها أو تعميق إحساسهم بالدونية. على سبيل المثال.. قد يكون لدى الصحفي سؤالا عن منطقة يكثر فيها المسيحيون وسط جيرانهم المسلمين، ولا تتعرض هذه المنطقة لحوادث الفتن الطائفية، بينما تتوزع الفتن على مناطق أخرى، فيكتشف القاريء أن الاجابة تكمن في أن ظروفهم المجتمعية هي التي أوجدت هذا الرباط بينهم، وأن المجتمع أفرز قيادات طبيعية تمسك بحبل الطائفية بيديها كي لا ينفلت.
من أجل الوصول إلى الشريحة المستهدفة فهناك طريقين:
الطريق الأول هو استخدام “دليل” من هذا المجتمع يفتح للصحفي بوابة آمنة يدخل منها إلى هذا العالم، سواء كان ناشطا شابا أو أحد المعارف الشخصية، أو باحثا عمل من قبل في هذا المجتمع، أو غير ذلك. 
الطريق الثاني هو النزول ميدانيا والتواصل مع المصادر من نقطة الصفر، وغالبا ما يحتاج الصحفي إلى الطريقين من أجل رسم صورة متكاملة عن المشهد، والوصول إلى إجابة سؤال التحقيق بشكل نزيه، فالصحفي في حاجة إلى الحصول على معلومات في بيئة آمنة من مصدر لا يعادي الصحافة، ثم الاختلاط مع الشارع من أجل إجابة سؤال التحقيق.
قبل التواصل مع الشريحة المستهدفة، لابد من معرفة كافة التفاصيل عنها، وتبادل الحديث مع المصادر المتاحة بلباقة، والاستدلال بها في الوصول إلى نتيجة في ختام الموضوع. كما يحتاج الصحفي أيضا إلى وضع الشريحة محل الدراسة في إطار مجتمعي أوسع، وليس تسليط العدسة المكبرة على ظاهرة مجتمعية وكأنها اتجاه عام في المجتمع الأكبر، ويستعين في ذلك بدراسات وأرقام وتعليقات الخبراء.
كذلك فما دام الصحفي قد اختار النزول إلى الهامش، فستكون قاعدة العمل هي أن: المعلومات قيمة في ذاتها، ولا تستمد أهميتها من أهمية المصدر، على عكس ما يعتنقه زملاؤه حين يبحثون عن جودة المصدر قبل أهمية المعلومة، فالعمل الميداني يجعل كافة المعلومات مهمة للوصول إلى نتيجة، على سبيل المثال، قد تكشف مجموعة من المواطنين عن تفاصيل عن عالم الانتخابات في حي ما، في حين تكون تصريحات أحد قيادات المجتمع المحلي ذات نبرة جافة وسلطوية، لذا فالتحقيق هو حوار بين الهامش والسلطة، حتى تكتمل الصورة.
ومن أهم أهداف التحقيق الاجتماعي هو إعادة النظر في ركام الأخبار ذات الاتجاه الواحد، وذلك ليس عملا بمبدأ “خالف تعرف”، ولكن للعمل بعقلية نقدية، وعلينا هنا الاعتراف بأن بعض الصحف لا تملك جرأة إعادة قراءة المشهد إذا ما كان ذلك مخالفا للإجماع الصحفي على قضية واحدة، على سبيل المثال كانت ظاهرة زواج المصريين من سوريات ذات نبرة واحدة وإجماع على أنها ظاهرة متفشية في أوساط السوريين في مصر، وهنا كان لابد من إعادة قراءة أعداد السوريين في مصر، ومطابقتها لواقع معيشة السوريين، ما قد يجعل النتيجة مختلفة، وأن تلك الحملة تقوم على واقع مزيف.
وحتى تصل إلى نتائج مضمونة، فهناك بعض الخطوات التي قد تفيد في تحقيق غرضك الصحفي:
ابتعد مسافة عن القضية التي تدرسها: كن واقعيا مع هدفك، وضع أسئلة عن الشريحة التي تتعامل معها.. لماذا وصلت  إلى المرحلة الحالية؟ وهل صورتهم المتداولة حقيقية؟ وما سبب أزمتهم؟
كن مراوغا ولا تكن كاذبا: في أثناء الذهاب إلى مصدرك “الآمن”، اجمع معلومات من الشارع، سواء من مشاهدات أو من أسئلة تطرحها دون إبراز هويتك الصحفية، لكن إن اضطررت للكشف عن هويتك، فلا تخفيها، وفي أوقات الخطر لا تغامر بنفسك قبل التفكير جيدا في أهمية المعلومة التي تطلبها، فبإمكانك أن تؤجل الحصول عليها فيما بعد.
أنت جزء من هذا المجتمع: فكر جيدا في شكل هيئتك قبل الزيارة الميدانية، لا ترتدي ملابس تعرضك للتنميط، ولا تستفز المصادر بالتعالي على حياتهم، بل كن جزءا من حياتهم اليومية في تنقلاتك بينهم سواء بالتوكتوك أو الميكروباص، والتحرك بين أنهار مياه الصرف الصحي دون تأفف.
احذر من المصادر: غالبا ما تراك المصادر في أوقات أزماتهم مجرد “مانشيت” أو “خبر”، فلا تنساق وراء رغباتهم، واظهر لهم اهتمامك بمعرفة المزيد، وتناقش معهم في معلومات جمعتها من قبل.
التوازن : فكر دائما في الأطراف الأخرى التي تريد التحدث معها، وحدد إن كانت مصادرك “الآمنة” ذات قدرة على أن توصلك بها أم ستعتمد على نفسك، وحدد أيضا إن كان من اللباقة أن تتحدث مع مصادرك الآمنة والميدانية عن أطراف أخرى تريد زيارتها أم أن الموقف لا يسمح.
في النهاية .. على الصحفي أن يصل إلى نتيجة بعد كافة تنقلاته الميدانية وجمع المادة المعلوماتية، والإجابة على الأسئلة التي طرحها منذ البداية.

Tuesday, May 6, 2014

في عالم النشطاء .. الحياة المهنية في قبضة السياسة


تجربة الحبس تقود تحولات فى حياة السياسيين الشباب
الشهرة تفتح مجالات عمل جديدة للبعض وتعيق عمل آخرين
المجتمع المدنى يحوى شريحة «النشطاء» لقربها من العمل العام
سعيد صادق: إذا اغترب الشباب.. فقدوا انتماءهم الوطنى

تغيرت حياة مها مأمون بسبب لقب «الناشطة» الذى ظل يصاحبها طوال الفترة الماضية، ومن أهم أعباء هذا اللقب ألا ينقطع الاتصال عن هاتفها من عائلات تبحث عن دعم ذويهم الذين تعرضوا للحبس أو الاعتقال، إذ أصبح رقم هاتفها متداولا بين كثير من الذين تعرضوا لمشاكل بسبب نشاطهم السياسى.
«كنت فى عمل مستقر حتى وقعت ثورة 25 يناير، ثم اندمجت فى العمل العام منذ سنة 2011، وبعدها واجهت التضييق فى عملى السابق، وأصبح استخدامى للانترنت أو الهاتف يثير هواجس زملائى، بسبب كونى ناشطة فى حملة لا للمحاكمات العسكرية آنذاك.. وتصاعد التضييق تدريجيا حتى أدركت أنه عليّ الرحيل». تنتمى مها مأمون الناشطة الحقوقية إلى شريحة من النشطاء اتسع مجال نشاطهم مع اشتعال الأحداث السياسية بشكل متوال، واضطر بعضهم إلى هجر وظائفهم التقليدية والاتجاه إلى العمل فى مهن أخرى أكثر اشتباكا مع الأحداث، وبعد رحلة من العمل التطوعى ومحاولة العودة إلى وظيفتها الأصلية، استقرت على أن تعمل فى المجال الحقوقى.
«حاولت أن أعود إلى عملى الأصلى فى مجال التسويق والاعلان، فتكرر الموقف نفسه بسبب ضيق صاحب العمل بوجود ناشطة حقوقية لديه، تدعم الآخرين، وتتنقل بين أقسام الشرطة لدعم من حبسوا، فتركت العمل بعد خبرة عشر سنوات، واتجهت إلى العمل المتقطع فى عدد من منظمات المجتمع المدني». تجلس مها مأمون الناشطة الثلاثينية فى كافيه على بعد أمتار من رسم جرافيتى لسامبو فى شارع محمد محمود، و«سامبو» هو الشاب الذى اشتهر بصورته التى يمسك فيها بندقية جندى أمن مركزى أثناء اشتباكات جرت فى يونيو 2011، أما الآن فتكتشف مها أنه يجمعها مع سامبو سياق واحد، إذ مرّ هو الآخر بمتاعب فى حياته المهنية بعد تعرضه للحبس بعد هذا الحادث.

«هناك فئات أوقعتها الأحداث فى متاعب مهنية أسوأ من التى نتعرض لها». تشير بيدها إلى نهاية شارع محمد محمود قائلة: «سامبو على سبيل المثال أحد هؤلاء، فهو شاب مصرى عادى، انطلق فى أحد الأيام مدافعا عن المتظاهرين، وتبدلت حياته بعدها.. واليوم لا يتذكره أحد». وقع هذا الشاب الثلاثينى فى حالة من «الوصم» داخل منطقته فى حى الشرابية، بسبب ارتباط اسمه بالثورة فى ذلك الوقت، ما جلب عليه متاعب مستمرة حتى يومنا هذا، أثرت على عمله كحرفى يعمل لحساب مقاولين، وجرت محاولات لمساندته من بعض النشطاء لإيجاد عمل يناسبه، لكن إحباطه وأداءه المشاغب أوقعه فى مشاكل جديدة مع الأمن فيما بعد.
تلك الضغوط المهنية ليست جديدة على عالم النشطاء، إذ كانت السياسة فى فترات سابقة عبئا على من عارضوا السلطة، وبين النشطاء الحاليين من تعرض لمواقف شبيهة حتى فى فترة حكم مبارك. على سبيل المثال تعرض أحمد ماهر مؤسس حركة 6إبريل لأزمات مهنية فى العام 2008 بعد إضراب 6 أبرايل الشهير، وهذا ما حدث معه فى نهاية العام الماضى قبل حبسه، وصدور حكم بحبسه لثلاث سنوات، إذ كتب رسالة فى ديسمبر الماضى من سجن ليمان طرة ذكر فيها نصا: «كان المفترض هذا الشهر، أن أبدأ عملى فى وظيفة جديدة كمهندس مدنى، بعد إجازة عدة شهور من الهندسة». لم يكن هذا الموقف جديدا بالنسبة إليه، إذ تعرض أحمد ماهر للتضييق الأمنى فى عمله كمهندس فى فترة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، حتى انتقل إلى مكتب المهندس والناشط السياسى ممدوح حمزة، ثم تم فصله فى اغسطس الماضى بسبب تغيبه عن العمل على حد تصريحات حمزة فى ذلك الوقت.

نشطاء السبوبة
وفى حالات «النشطاء» ذوى السمعة الشهيرة، هناك بعض الطرق التى قد تعوض أحيانا عن مشاكلهم المهنية، منها حضور فاعليات أو إلقاء محاضرات أو العمل فى ورش تدريبية تتوافق مع خبراتهم فى مقابل مادى، لكنها أمور تأتى على فترات غير منتظمة فى أغلب الأوقات، وإلى جانب ذلك، فإن هناك من نجحوا فى الاستفادة من سمعتهم السياسية فى الحصول على تمويل لمشروعات فى مجال التدريب السياسى أو الاعلامى وغيرها. وبعيدا عن هذا الطريق، هناك من تمسكوا بمهنتهم الأصلية، أحدهم هو مصطفى النجار عضو مجلس الشعب السابق، والناشط السياسى المعروف. إذ افتتح فى نوفمبر الماضى مركزا لطب الاسنان فى مدينة نصر، لكن ذلك لم يمنع البعض من اتهامه فى ذمته المالية والتشكيك فى قدرته على تأسيس عيادة بهذه التكلفة، واضطر الناشط السياسى مصطفى النجار إلى نفى تلك الاتهامات على صفحته فى الفيسبوك، والتأكيد على انه لم يبتعد أبدا عن الطب، وعرض صورًا ضوئية من عقد إيجار المركز الذى شارك فى تأسيسه مع زملاء من نفس المهنة، ثم نشر إيصالات بقيمة أجهزة العيادة التى يشارك فى تسديدها بالتقسيط مع زملائه، كما نشر قيمة دخله الشهرى كطبيب وكاتب فى عدد من الصحف المصرية والذى يتراوح بين 15 إلى 18 ألف جنيه، مبرزا إقرار الذمة المالية المنشور فى عدد من الصحف تفصيلا قبل توليه منصب نائب مجلس الشعب عن دائرة مدينة نصر، لكنه ما زال فى دائرة الاتهام بين الحين والآخر، ووصفه بأنه من «نشطاء السبوبة»، وهو الوصف الذى تستخدمه بعض البرامج التليفزيونية بشكل صريح تجاه العديد من النشطاء.
هذه التفاصيل أحيانا ما تنعكس على الحياة الأسرية لهؤلاء «النشطاء»، وهو ما قلب مسار حياتهم تماما، وأبعدهم عن حلم حياتهم الذى اختاروه من البداية.

فى مركز هشام مبارك للقانون فى القاهرة، جلست هند نافع منسق حملة «وطن بلا تعذيب» وسط زملائها من المحامين والحقوقيين العاملين فى المركز، وبدأت فى استعراض خطوات تعديل مسار حياتها من طالبة فى السنة التمهيدية للماجستير، إلى أن استقرت فى عملها الحالى كحقوقية فى المركز. «تعرضت لتعنيف من أساتذتى فى الجامعة بسبب نشاطى السياسى، كما تعرضت لعنف أسرى بعدها، ولم استكمل طموحى الأكاديمى، وكل هذا بعد واقعة احتجازى على خلفية أحداث مجلس الوزراء فى العام 2011».
كانت هند ضمن الأوائل على دفعتها فى كلية التربية بجامعة بنها، وتطمح أن تستكمل مسيرتها التعليمية، تمهيدا للتعيين كمعيدة فى الجامعة، وكانت النقطة الفاصلة فى حياتها بعد احتجازها فى نهاية 2011، وتعرضها لاعتداءات من الأمن، إضافة إلى موقفها الشهير حين احتجت على زيارة المشير طنطاوى لها فى المستشفى، وهو ما دفع أهلها إلى احتجازها فى المنزل، وتعنيفها لشهور طويلة، حتى نجحت فى إيجاد صيغة تبقيها فى القاهرة، ووفر لها الحقوقى أحمد سيف الإسلام عملا فى مركز هشام مبارك. وبعد أكثر من ثلاث سنوات، تكتشف هند أن قصتها لم تنته بعد، إذ إن قضية أحداث مجلس الوزراء مازالت تتخذ مسارها القضائى، ومن الاتهامات التى تواجهها هند مع زملائها، الاعتداء على رجال السلطة العامة من أفراد القوات المسلحة والشرطة، وإلقاء «مولوتوف» على المجمع العلمى المصرى، وإضرام النار فيه وفى سائر المبانى المجاورة، إلى جانب تهم أخرى قد تتسبب فى عقوبة جنائية تعيق مستقبلها المهنى مرة أخرى.
«بحكم عملى فى حملة وطن بلا تعذيب، رأيت حالات تضررت مهنيا، إلى جانب ما يحدث لفئة أخرى هى الطلاب الذين يتعرض بعضهم للتضييق فى مسارهم الدراسى، وأقرب هذه النماذج منى، هو أحمد طه زميلى فى الحملة، الذى خرج من الحبس بعد 9 شهور ليجد نفسه مفصولا من مدرسته الثانوية، وبعد متابعة قضيته، عاد إلى الدراسة مرة أخرى». هذا ما ذكرته هند نافع.
وتكشف التقارير الحقوقية على مدار السنوات الماضية عن أزمات تتعرض لها شريحة أخرى من النشطاء، لم يتضرروا بسبب السياسة، لكن بسبب انخراطهم فى الدفاع عن حقوقهم المهنية والعمالية، ولم ينقطع هذا النوع من القضايا عن بعض المراكز الحقوقية، منها المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذى سجل حالات فقدت عملها بسبب تبنيهم العمل الاحتجاجى داخل مؤسساتهم. فى إحدى هذه الحالات التى وثقها المركز تعرض العامل للنقل عدة مرات داخل الشركة حتى تم فصله من العمل، وذلك بعد أن أقام دعوى قضائية أمام مجلس الدولة ببطلان خصخصة وبيع الشركة التى يعمل فيها، وهى الحالة التى وثقها المركز على موقعه الالكترونى.

الحرية للجدعان
«الأزمات المهنية لا يتعرض لها النشطاء السياسيون فقط، بل يتعرض لها نشطاء عماليون، سواء بالتهديد أو بالنقل التعسفى، لمجرد أنهم يطالبون بحقوق عمالية، وهذا الأمر ليس جديدا، خاصة مع عودة جهاز الأمن الوطنى إلى داخل المؤسسات الحكومية والمصانع». هذا الحديث للناشط السياسى خالد عبدالحميد المتحدث الاعلامى لحملة «الحرية للجدعان».
انغمس خالد فى أريكة جلدية بإحدى غرف مركز دعم لتقنية المعلومات، حيث يعمل منذ سنوات، ثم تحدث ضاحكا: «لا يعلم كثيرون ماذا أعمل بقدر ما يعلمون صفتى كناشط سياسى، لكن لقب ناشط ليس مهنة». ينتمى خالد عبدالحميد عضو جبهة طريق الثورة المصرية إلى جيل من السياسيين الشباب، وجدوا مجالات تحتويهم دون أن تكون عبئا على نشاطهم السياسى. عمل فى البداية فى دار ميريت للنشر لصاحبها محمد هاشم المنخرط فى العمل العام، وانتقل بعدها بين العامين 2001 و2004 للعمل فى المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حتى استقر فى السنوات العشر الأخيرة فى عمله الحالى فى مركز دعم لتقنية المعلومات، ويعترف أنه يمثل نموذجا توافرت له مساحة للانخراط فى الشأن السياسى، دون إخلال بحياتهم المهنية.
«أصحاب العمل فى هذه الأماكن كانوا من المرونة أن يتسامحوا مع انشغالى بالسياسة، هذا إن لم يكونوا هم أنفسهم منخرطين فى نفس الهم». على حد قوله. كما يرى خالد بحكم موقعه كمؤسس لحملات وتجارب حزبية، أن اتساع عالم المبادرات فى السنوات العشر الأخيرة والظهور الكثيف لدور مؤسسات المجتمع المدنى، قد أتاح للبعض حلا للانخراط فى الشأن العام من خلال حياة مهنية، فى وقت أغلقت الحكومة أبوابها للتعيين إلا فى مساحات محدودة مقارنة بالأجيال السابقة.
لكن البعض يتخذ حذره خوفا من أن يكون اتساع دائرة المنخرطين فى العمل السياسى سببا فى اتساع دائرة من تأثرت حياتهم المهنية بسلبيات السياسة، هذا ما يعتبره سعيد صادق استاذ علم الاجتماع السياسى واحدا من أعراض المرحلة الانتقالية التى تعيشها مصر، وهى بحسب وجهة نظره ليست مؤشرا يدل على صورة المستقبل، فإما أن يكون الطريق القادم متجها نحو مجتمع مفتوح، يحتوى هذه الشريحة من الشباب المنخرطة فى الشأن السياسى، فيتحولون إلى أحد مكاسب الدولة، أو أن يتجه المسار إلى الطريق الثانى الذى يحذر منه قائلا: «إذا ما تحول المجتمع إلى الانغلاق، فسيزداد إحساس أبناء هذه الشريحة من الشباب المنخرط فى السياسة بالاغتراب، وفى هذا خطورة شديدة على انتمائهم الوطنى، خاصة أن هذه الشريحة قد اتسعت بعد أن انخرط كثير من المواطنين فى الشأن السياسى، لذا فالتعسف ونزع الكرامة عن أولئك الشباب، قد يفقدهم إيمانهم بالدولة، وهو ما حدث فى نهاية حكم مبارك».
ليست الصورة بهذه القتامة، فما زال هناك من يعمل رغم ما يتعرض له من ضغوطات، على سبيل المثال.. ناقش شريف فرج المعيد فى كلية الفنون الجميلة بجامعة الاسكندرية رسالة الماجستير فى سجن الحضرة فى الاسكندرية، وتم منحه الدرجة أثناء حبسه احتياطيا على ذمة التحقيقات فى اتهامه بالمشاركة فى أحداث عنف وقعت قبل عدة أشهر. أما مها مأمون الناشطة الحقوقية، فقد بدأت مشوارها فى دراسة الحقوق استكمالا لمشوارها فى هذا المجال، بينما تفكر هند نافع التى تنتظر حكما فى قضية أحداث مجلس الوزراء أن تحضر الماجستير فى مجال حقوق الانسان وتودع تخصصها الأصلى فى مجال التربية إلى الأبد.
 **
تصوير: جيهان نصر
**
الناشط.. الأصل والفصل
يستمد لفظ «النشطاء» جذوره من الثقافة الغربية منذ القرن الماضى، حيث أصبح يطلق على من يعملون على إحداث تغيير اجتماعى، أو سياسى، أو اقتصادى، أو حتى بيئى، مستخدمين فى ذلك مختلف أدوات للتغيير، مثل مخاطبة وسائل الإعلام، أو الحملات السياسية، أو المقاطعة، أو التظاهر، انتهاء بالإضراب عن الطعام. وازداد على ذلك استخدام الانترنت لتحقيق نفس الأهداف.
أما فى مصر، فقد أصبح لفظ «الناشط» أكثر تداولا فى وسائل الاعلام بعد اتساع دائرة عمل منظمات المجتمع المدنى فى السنوات الأخيرة، وازدياد أعداد المتطوعين فى مبادرات تنموية وحقوقية وسياسية، ومع اختلاط هؤلاء مع أقرانهم فى دول أخرى من خلال مؤتمرات وفاعليات مختلفة، انتقل لفظ ناشط إلى بيئة العمل المصرية. وهنا يجب التفريق بين ناشط يستخدم أساليب التغيير من خلال مبادرة أو حملة أو غيرها، وقد تكون له مهنة أخرى عادية، وبين ناشط يعمل فى المجال الحقوقى ويقوم عمله بالكامل على إقامة المبادرات والفاعليات لنشر التوعية أو لإحداث تغيير فى المجتمع.
وفى داخل الأوساط الحقوقية العالمية يظهر مفهوم صناعة النشاط الحقوقى Activism Industry المتصل بأسلوب عمل النشطاء فى كافة المجالات الحقوقية والسياسية، إذ تعتمد شريحة من النشطاء على التمويل وتلقى المنح، من أجل دعم مشروعاتهم وأفكارهم، ويتم ذلك من خلال تدشينهم منظمات غير هادفة للربح، يعملون فيها على قضايا محددة. لذا فقد أصبحت مسألة إدارة تمويل هذه المؤسسات، وتسويق المشروعات والحملات أمام الجهات المانحة مجالا يحتاج للتفرغ التام، وهو ما أظهر أيضا تكتيكات تستخدمها المنظمات والنشطاء للضغط على الحكومات، وتحقيق التغيير الذى يسعون إليه.
وهكذا تتبدل صورة الناشط محليا وعالميا، بين متطوع يعمل بنفس أدوات التغيير لتحقيق أهدافه، أو ناشط آخر يعمل كجزء من منظمة حقوقية.
 أحمد دومة في سيارة الترحيلات - تصوير: محمد الميموني
**
صحيفة الحالة الجنائية لناشط سياسى
بعض الاتهامات التى يواجهها نشطاء تم القبض عليهم من أماكن تظاهرهم قد تظهر مستقبلا فى صحيفة الحالة الجنائية الخاصة بهم، إذ يواجه بعضهم أحكاما فى عدة قضايا جنائية.
«لا يتم تسجيل الجناية فى صحيفة الحالة الجنائية إلا حين يصدر حكم بات، وبعد انهاء كافة مراحل التقاضى فى المحاكم المصرية». هذا ما يذكره محمد عبدالعزيز المحامى الحقوقى، حيث يجلس فى مكتبه بمركز الحقانية فى وسط المدينة بين عدد من ملفات تعج بهذا النوع من القضايا. وتتبدل اتهامات النشطاء غالبا بين عدد من التهم، مثل: التجمهر، وإثارة الشغب، واتلاف ممتلكات خاصة أو عامة، والتعدى على موظف عام، وأخيرا انضمت إليهم تهمة التظاهر دون تصريح. وقد تظهر فى المستقبل أحكام نهائية داخل صحيفتهم الجنائية، إذا ما تكرر تعرضهم لعقوبات قانونية، وهو ما قد يزيد من متاعبهم فى حياتهم المهنية، لكن الأزمة الأكبر تكمن فى تطبيق إجراء «الحبس الاحتياطي» بشكل متعسف، حين يبقى المتهم فى الحبس لأسابيع دون العرض على محاكمة.
«حتى لا يتعرض المحبوس للفصل من عمله، يتم الحصول على شهادة من جدول النيابة، لإثبات أنه قيد الحبس الاحتياطى وليس ممتنعا عن العمل، وهو ما قد يحمى وظيفته من الضياع». هذا ما يذكره محمد عبدالعزيز الذى احتجز فى نوفمبر الماضى، حين شارك فى أول مظاهرة ضد قانون التظاهر، ثم أخلى سبيله بعدها، بينما يتابع الآن مسار عدد من قضايا النشطاء.

يقر محمد عبدالعزيز أن تسجيل الاحكام القضائية فى صحيفة الحالة الجنائية ليس أمرا شائعا فى قضايا النشطاء السياسيين، إذ لم يتكرر صدور أحكام جنائية لأغلبهم، فى الفترة الماضية، لكن الأزمة التى تلاحق من يعمل على قضايا النشطاء السياسيين، هى فى مواجهة أمر الحبس الاحتياطى، فحسب المادة (134) من قانون الإجراءات الجنائية يجوز لقاضى التحقيق أن يصدر أمرًا بحبس المتهم احتياطيا، وذلك فى حالات محددة منها، أن تكون الجريمة فى حالة تلبس، أو أن تكون هناك خشية من هروب المتهم، أو التخوف من أن يستغل المتهم نفوذه فى التأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو العبث فى الأدلة أو القرائن المادية، أو أن يجرى المتهم اتفاقات مع باقى الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها. أخذ محمد عبدالعزيز يتلو النص القانونى من شاشة الكمبيوتر، موضحا ان مهمة المحامى هنا تتلخص فى محاولة الضغط من أجل تحديد جلسة قريبة، وهو ما يحدده القاضى فى النهاية، لذا فالحبس الاحتياطى الذى دام فى عدد من القضايا عدة شهور يتحول إلى عقوبة حسبما يرى كثير من الحقوقيين.
يعود المحامى الشاب إلى شاشة الكمبيوتر ليتلو نص المادة (136 ) قائلا: «تنص هذه المادة على أن يشتمل أمر الحبس على بيان الجريمة المسندة إلى المتهم والعقوبة المقررة لها، والأسباب التى بنى عليها الأمر.. فهل تحققت هذه النقاط فى كافة أوامر الحبس الاحتياطى؟ فنحن هنا نتحدث عن وقائع جرت فى زحام المظاهرات والاشتباكات، والسلطة كلها فى يد رجال الأمن لتبرير الحبس الاحتياطي».
ينتهى الحديث مع محمد عبدالعزيز، الذى لا يكف هاتفه عن تلقى اتصالات زملائه المتطوعين، محاولا ادارة أزمات المحبوسين بأفضل الطرق القانونية.