Thursday, January 31, 2013

الأرزاق على الله

عبدالرحمن مصطفى
 تتشابه صناديق ماسحي الأحذية على أرصفة شوارع القاهرة، نفس الشكل التقليدي، ونفس أدوات العمل من طلاء وورنيش للتلميع، تخفي الصناديق داخلها العديد من أسرار أصحابها. في أعلى كل صندوق مسند صغير يستقبل أقدام الزبائن، ليبقى الحذاء منتصباً في وجه ماسح الأحذية مقابل جنيه إلى جنيهين، حسب كرم الزبون.
قبل أكثر من تسعين عاماً قام فنان الشعب سيد درويش بتلحين كلمات ساخرة في أغنية «البويجية» عن الخواجة اليوناني الذي اضطرته الأيام إلى مسح الأحذية في فترة ما بعد ثورة 1919 نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية، وتقول الكلمات: «مخسوبكو انداس، صَبَّحْ محتاس، مسختوا بابوتسي ياناس، مفيس فلوس، بقيتو منخوس، فقرتو خلاص».. نفس تلك الحالة الاقتصادية المتردية الآن بعد الثورة المصرية رمت بعم أحمد خلف صندوق الورنيش جوار محطة القطار الرئيسية في ميدان رمسيس، يرفض الحديث عن الأسباب الشخصية التي حولته إلى ماسح للأحذية. يتحدث بنبرة متعلمة قائلاً : «كل منا هنا خلف صندوقه، ولا تحدث خلافات إلا في أضيق الحدود.. وإن حدثت فما الغريب في ذلك!؟ حتى بين الأطباء وأرقى المهن تحدث المشاكل..». يبتسم مخفياً قصته خلف صندوق تلميع الأحذية، وفي خلفيته شارع «كلوت بك» حيث يجلس الحاج محمد إمام الذي يعرفه أغلب ماسحي الأحذية في هذه الناحية. «تبدأ أسعار الصناديق من 20 جنيهاً وتنتهى بـ 60 جنيهاً.. الموضوع غير مكلف». في المخزن المجاور للحاج محمد عدد من الصناديق الخشبية، وعلى كل واحد منهم سعره، أما أغلاها فهو المطلي بطبقة لامعة تعطي مظهراً بهياً لحامله. «أنا مجرد وسيط بين صانعي الصناديق والزبائن، يمدني بها ماسح أحذية قديم يعمل الآن في وظيفة حكومية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يقضي وقتاً إضافياً في صناعة هذه الصناديق، كي يزيد من دخله». يصف الحاج محمد زبائنه بأن أغلبهم ينتمي إلى محافظات الصعيد، جاؤوا طامحين إلى الاستقرار في القاهرة، على أن تكون البداية بصندوق الورنيش.
 في داخل الصندوق أماكن لزجاجات الطلاء التي لا يزيد سعر الواحدة منها على جنيه واحد، وعلب ورنيش لا يتجاوز سعرها الأربعة جنيهات، ويقتصر دور الحاج محمد هنا على بيع الصناديق لزبائن بسطاء كوكيل عن الصانع الأصلي، دون أن يكون شريكاً حقيقياً في الصفقة البسيطة، وهي مهمة تختلف عن محلات أخرى تبيع صناديق الورنيش على هامش تجارتها في بيع مستلزمات الأحذية.
 يفصل شارع باب البحر بين مخزن الحاج محمد وتلك المتاجر في ميدان باب الشعرية. وفي عمارة زوزو الشهيرة هناك تتجاور محلات بيع مستلزمات الأحذية والمنتجات الجلدية.. يجلس عرفة عبادة أمام المحل، ساندا ذراعه على كومة من الأكياس، تعلوها صناديق ورنيش خشبية، وينقل جلسته إلى المقهى المقابل ثم يبدأ في الحديث: «قبل حوالي 20 سنة، كانت محلات تصليح الأحذية تبيع صناديق الورنيش، لكن مع مرور الوقت، زهدوا في بيعها وتركوا المهمة لنجارين يأتون على فترات متباعدة، أما أنا فأشتري منهم حسب الحاجة».
 في المناطق القريبة من قلب القاهرة مثل العتبة و«وسط البلد» انتشرت في الماضي محلات متخصصة في تصليح وتلميع الأحذية، في تلك المحلات المندثرة كان المشهد مطابقاً للاستعراض الغنائي الشهير الذي أداه الفنان الأميركي فريد إستير في فيلم «عربة الفرقة الموسيقية – إنتاج 1953»، حيث كرسي عال في أسفله موضع قدمين، يسهلان مهمة ماسح الأحذية في عمله، لكن تلك المشاهد اختفت من شوارع القاهرة، وبقيت الصناديق المتجولة مع ماسحي الأحذية.
مازال «عرفة عبادة» يتذكر في جلسته قرب ميدان باب الشعرية، ذلك الشاب العشريني الذي اشترى منه صندوقاً للعمل والهروب من البطالة، يصف ذلك قائلاً: «كان مملوءاً بالخجل والتردد، لم يعرف إلى أين يذهب بعدَّته الجديدة، فأشرت عليه أن يتجه إلى محطات مترو الأنفاق، لكنه عاد بعد ساعتين فقط، كي يعيد الصندوق، ويسترد أمواله».
 كثيرون من ماسحي الأحذية المنتشرين في المسافة بين باب الشعرية حتى منطقة «وسط البلد» القاهرية يدركون هدفهم بالضبط، فهم إما متخفين وراء مهنة تجلب لهم الستر، أو يرون في صندوق الورنيش مجرد عتبة سلم إلى مهنة أخرى، وهو ما سَجَّله عدد من ماسحي الأحذية الوافدين من خارج القاهرة.
في إحدى المجموعات التي انتشرت قرب ميدان رمسيس ذكروا ملمحاً عن حياتهم، إذ تجمعهم غرفة واحدة في حي «الدويقة» ذي الطابع العشوائي تكلفهم 50 جنيهاً في الشهر، بينما قد يتراوح أجر ماسح الأحذية بين 30 وأربعين جنيهاً في اليوم الواحد، وفي أيام أخرى قد لا يحقق ماسح الأحذية خمسة جنيهات على حد قولهم.
 في منطقة «وسط البلد» حيث العديد من المقاهي الشهيرة بالقاهرة، كانت علاقة «همام أحمد» المنتمي إلى محافظة سوهاج واضحة بصندوق الورنيش، بدأ الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة عشر سنة قبل أسابيع الطواف في المنطقة من ميدان الإسعاف حتى ميدان باب اللوق، لا يدعمه أحد، وجاءه خاله بالصندوق، على أمل أن يكرر تجربته، إذ يعمل خاله الآن بائعاً متجولاً يبيع الفواكه في حي العمرانية، بعد سنوات من مسح الأحذية. لا يصدق «همام» أن ماسحاً للأحذية نجح في الوصول إلى رئاسة الجمهورية في إحدى الدول النامية كالبرازيل مثل لولا داسيلفا الذي انتخب دورتين متتاليتين، يكتفي بجملة مقتضبة: «الكلام ده ماينفعش عندنا». ولم يكن دا سيلفا الوحيد الذي جلس أمام صندوق خشبي لتلميع الأحذية حتى أصبح من مشاهير العالم، آخرون فعلوا ذلك قبله مثل المغني الأميركي الراحل جيمس براون، والزعيم الأميركي الأسود مالكولم إكس.
 هنا في عالم «وسط البلد» أخرج الكاتب علاء الأسواني نموذجاً لشخصية درامية هي «الحاج عزام» ماسح الأحذية الذي تطورت حياته مع تجارة المخدرات إلى أن وصل إلى البرلمان، واستخدم الأسواني تلك الشخصية في رواية «عمارة يعقوبيان» التي تدور أحداثها في وسط البلد. وفي محيط تلك المنطقة على بعد أمتار من المقهى الذي كان يدير فيه الأسواني صالونه قبل سنوات، يمر أحمد شعيب السبعيني حاملاً صندوق تلميع الأحذية، بعيداً عن عالم الرواية وعن التحولات المفاجئة للبسطاء التي لا تحدث إلا نادراً. اختار الصندوق صديقاً يؤنسه في عامه الثالث والسبعين، يقضي وقته في العمل وقتل الفراغ.
 «كل ما علي هو أن أعمل، وربما يهديني الله برزق من حيث لا أحتسب!». يكمل حديثه مستعرضاً موقفان تعرَّض لهما حين جلس يلمِّع حذاء أحد الزبائن، وتلقى أجرته العادية، وفوقها ورقة بمئتي جنيه، ليتحول صندوق الورنيش إلى فرصة لرزق غير متوقع. هذا التطور الأخير لحياة أحمد شعيب أحد قدامى ماسحي الأحذية في منطقة «وسط البلد» يشبه التطور الأخير للحالة الاقتصادية في مصر، إذ بدأ العمل في مجال تصنيع الأحذية قبل ستين عاماً هنا في السوق القديم في باب اللوق، كما عمل في مصانع مجاورة كانت تصدر إنتاجها إلى الاتحاد السوفيتي في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وقبل 15 سنة فقط صنع صندوقه بنفسه، وظل ملاصقاً له كبديل عن الجلوس بالمنزل دون عمل. «أسمع على المقاهي أحاديث في السياسة، وتذكر أمامي أسماء : خيرت الشاطر، وحمدين صباحي، وغيرهما، فلا أشاركهم في الكلام». ينهي حديثه أمام مقهى الحرية في ميدان باب اللوق منطلقاً بصندوقه على أمل أن تهديه الأيام مبلغاً مجزياً يعوضه عن أيام أخرى يطوف فيها، ولا يجد زبائنه.

Thursday, January 24, 2013

عين صوفية و عين سلفية على المناسبات الدينية

سؤال المولد: كيف نحتفل بذكرى الحبيب ؟
كتب – عبدالرحمن مصطفى
يقدم الشاعر والباحث سيد سليم نفسه قائلا: "أنا خدّام آل البيت"، ثم يستكمل وصف عالمه الصغير في قرية عرب مطير بمحافظة أسيوط أثناء المولد النبوي من كل عام، بين الذكر الصوفي، والدروس الدينية، وتبادل "الواجب العائلي" بين أهالي القرية. يستكمل قائلا: " ما أراه الآن بحكم انتمائي الصوفي أن هناك حالة استبعاد لآل البيت، و رفض إحياء ذكراهم وعلى رأس ذلك إحياء ذكرى الرسول، وربط كل ذلك بالشيعة..  على السلفيين ألا يقفوا ضد الفرحة التي نبحث عنها في هذه المناسبات ".
في عدد من المواقع السلفية فتاوى تدين الاحتفال بالمولد النبوي وتصفه بأنه "بدعة"، وتظهر تلك الفتاوى تحت أسماء قيادات سلفية حالية، كما تزداد حدة الاشتباك بين التيارات السلفية و المتصوفة حين ينتقل الحديث من إحياء ذكرى الرسول إلى إحياء ذكرى آل البيت. أما من اختاروا أن يكون عنوان حياتهم هو "محبة آل البيت"، فالأمر أقرب إلى نمط حياة يومي، و يلخص الباحث الإسلامي سيد سليم حياة محبي آل البيت في مراحل: أولها السعي إلى تحصيل العلم و مطالعة سيرة علماء آل البيت ، فتتحرك عاطفة المحب نحوهم، ما يجعله يجتهد في إحياء ذكراهم بين الناس. وما يزيد من مكانة بعض الشخصيات عند المتصوفة هو أن يجمعوا بين النسب الشريف و تحصيل العلم وهو ما يتمثل في نماذج قديمة من أئمة آل البيت ينتمون إلى نسل الرسول، ونماذج آخري معاصرة مثل الشيخ صالح الجعفري، والشيخ محمد متولي الشعراوي، لذا يتم تبجيلهم حتى اليوم في ذكرى مولدهم بسرادقات وفعاليات سنوية.  يستكمل سيد سليم قائلا: "في العام الماضي أجاز أحد شيوخ السلفية إحياء ذكرى ثورة 25 يناير، على اعتبار أنه يوم يشبه انتصار موقعة بدر، فكيف يجيز ذلك ولا يزكي الاحتفال بذكرى الرسول الحبيب وآل بيته الكرام ؟". كان الشيخ السلفي عبد الرحمن عبد الخالق هو من أصدر هذا الرأي قبل عام في ذكرى الثورة.
أما داخل مجالس العلم و قنوات التلفزيون ومواقع الانترنت التي تنتهج الفكر السلفي، فيقل الحديث عن إحياء ذكرى المولد النبوي، واقتفاء أثر آل البيت، و يرتبط ذلك بتحذيرات من الشيعة والتشيع. قبل أيام ذكر أحد المواقع تصريحا على لسان القيادي الشاب أحمد مولانا، عضو الجبهة السلفية عن أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة شيعية، لكنه ينفي ذلك التصريح قائلا : "بعض المنابر الإعلامية تتعامل مع السلفيين على أنهم معادون لآل البيت ولا يقبلون عادات الآخرين ، هذا التصريح لم أقله، بل وأتحدى أن يأت أحد برأي لشيخ سلفي يقلل من شأن آل البيت". يعيد المؤرخ المقريزي تاريخ الاحتفال بذكرى المولد النبوي إلى الدولة الفاطمية، وهي المعلومة التي تقدمها الأدبيات السلفية كدليل على أن هذه المناسبة ذات نشأة شيعية فاطمية، بما يتبعها من مظاهر، يعلق أحمد مولانا قائلا: "نعم .. هناك تقصير في الحديث عن آل البيت وفضائلهم داخل الأوساط السلفية، وربما بالفعل هناك من يحفظ سيرة أئمة السلفية عن سير آل البيت، لكن هذا ليس عداء، إنما يكون العداء لما يصاحب هذه المناسبات من تجاوزات ، فإحياء الذكرى ليس بالغناء أو حتى بالحضرة في الموالد، نحن نتبع ما قاله الشرع".
تأتي ذكرى مولد الرسول كغيرها من المناسبات، حين يكتفي الشيخ السلفي بكلمة في مسجد، أو بإشارة في خطبة الجمعة، "الأمر له علاقة بتجسيد أفعال الرسول في الواقع، وليس العيش في عالم الاحتفالات والوهم ". حسبما يذكر أحمد مولانا القيادي السلفي.
كانت دار الإفتاء المصرية قد أعلنت في فتوى لها أن الاحتفال بذكرى مولد الرسول الكريم هو : "من أقرب القربات وأفضل الأعمال" ، وأن الحكم في الاحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين وإحياء ذكراهم هو : "أمر مرغـَّب فيه شرعا". هل تتغير تلك القواعد إذا ما ازداد عدد أبناء التيار السلفي في البرلمان القادم، فتواجه تلك الاحتفالات بتشريعات تحد منها؟ يجيب أحمد مولانا المتحدث الرسمي باسم حزب الشعب ، التابع للجبهة السلفية، قائلا: "دعنا نتذكر قبل 100 سنة حين كانت تلك الاحتفالات بما يصاحبها من مخالفات شرعية هي السائدة، لقد تغير الوضع الآن بفضل التعليم، وازدياد الوعي الديني، وحتى إذا ما ازداد وجود السلفيين في البرلمان أو السلطة، فإن مثل هذه الاحتفالات التي لا نؤيدها ستواجه بالعلم الشرعي، فليست مهمتنا مطاردة الناس داخل المساجد، والتضييق عليهم".

Saturday, January 5, 2013

الشرطة تبحث عن صوت لها على الانترنت !

    
صفحة تسعى إلى المواطنين بعيدا عن الشارع
كتب – عبد الرحمن مصطفى
يتلقى أعضاء صفحة الشرطة المصرية بين الحين والآخر عبارات من نوعية : "أنا محبط !"، يكتبها مدير الصفحة على الفيسبوك ملخصا ما واجهه على مدار عامين من محاولات التقريب بين عالم وزارة الداخلية، و أعضاء شبكة فيسبوك الاجتماعية. "ما زال البعض يرى في ضابط الشرطة أنه متعالي، ومتعجرف ، وكان ضروريا بعد الثورة أن تقترب المسافات، و أن يرى المواطن العادي الحقيقة كما هي دون تزييف أو تجميل". يشرح هنا مدير الصفحة الأسباب التي دفعته في هذا الاتجاه ، ويعمل معه عدد من الضباط والأصدقاء في مهام يومية يتلقون فيها كما لا بأس به من الانتقادات والتعليقات الحادة .. كأن يكتب أحد المعلقين على سبيل المثال : "نضفوا نفسكوا الأول، والكلام للظباط والقيادات اللى شايفيين نفسهم على الشعب، ولو نسيتوا، الشعب المصرى كارهكوا طول ماانتوا بتتعالوا عليه، و 25 يناير تشهد بكدة". هذا إلى جانب مئات التعليقات الأخرى الأكثر حدة، التي توجه سبا وقذفا إلى ضباط الداخلية، وتزداد تلك الحدة في فترات الاشتباكات بين الأمن و المتظاهرين، و تصبح المهمة أكثر صعوبة في مطاردة التعليقات الخارجة حين يصل عدد الأعضاء إلى حوالي 142 ألف عضو.
يخفي مؤسس الصفحة هويته ويرفض التعريف ببياناته الشخصية في هذه المرحلة لأن ذلك مخالف لقواعد عمله كضابط في وزارة الداخلية المصرية، وكان قد بدأ تأسيس الصفحة في فبراير 2011 ، ثم دعا أصدقاءه الضباط على مدار أسابيع بعدها إلى مشاركته في هذه التجربة الجديدة، حتى أصبح معه الآن خمس مديرين أساسيين للصفحة، تحت مظلة واحدة تهدف إلى أن يديروا "صفحة مجتمعية" تختلف في أدائها عن الصفحات الرسمية التي دشنتها الأجهزة الحكومية بعد الثورة، ومنها الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية المصرية. لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن صفحته انتقلت في مرحلة تالية لتصبح تحت رعاية وزارة الداخلية، بعد أن لفتت أنظار القيادات ، وازداد عدد أعضائها.
يشرح مدير الصفحة الذي أصر على عدم ذكر اسمه قائلا: "تواصلت مع إدارة الإعلام والعلاقات العامة بالوزارة، و أصبحنا ننشر بيانات الوزارة، ونتأكد من بعض المعلومات بشكل مباشر من إدارة الإعلام كي ننشرها بشكل عاجل على الصفحة، لكننا طوال الوقت كنا حريصين على ألا نتحول إلى نسخة من صفحة الوزارة، إذ ما زالت لدينا مساحة للانتقاد، والتعبير عن أنفسنا وآرائنا، والاشتباك أحيانا مع الوزارة بشكل مقبول".
المتابع لصفحة الشرطة المصرية يجد نبرة معارضة تظهر في بعض المواقف، ينقل فيها "الأدمن" المتاعب التي يواجهها الضابط في عمله أو في علاقاته بقياداته، كما يعتمد على نشر أخبار وصور شهداء الشرطة في العمليات الأمنية بشكل سريع لنقل ملامح حياة العاملين في وزارة الداخلية، المهم "ألا ننشر غسيلنا القذر أمام الناس"، حسب تعبير مؤسس الصفحة الذي يستكمل حديثه قائلا: "كان طموحنا أكبر من هذا، إذ كان كلي إصرار على أن انتزع مساحة خاصة بتلقي الشكاوي وتوصيلها إلى الوزارة، سواء كانت الشكوى من مواطن أو من أحد العاملين في الداخلية، وما زلت أتابع مع الوزارة من أجل هذه الخدمة ، حتى تكون بادرة خير لدى المواطنين والضباط تشعرهم بأن هناك تغيير بعد الثورة".
على مدار 24 ساعة يتم تحديث الصفحة بواسطة مجموعة من الزملاء والأصدقاء ، سواء من المنزل أو جهاز اللابتوب الشخصي أو من الهاتف المحمول، لنقل التحديثات على مدار الساعة، محاولين ابتكار مساحة لاجتذاب جمهور الانترنت للتعاون مع الشرطة. كان آخر تلك المحاولات هو اقتراح من الصفحة بتقديم نشرة مرورية يساهم في إعدادها أعضاء الصفحة أنفسهم ببث معلومات عن الأماكن المتواجدين فيها وحالتها المرورية من الساعة 7 الصبح حتى الساعة 3 العصر. ما مدى قدرة هذا النوع من الصفحات على الانتقال إلى مستوى آخر يعتمد فيه العمل على العلاقات المباشرة و التواصل مع صفحات أخرى؟ يشرح مدير الصفحة أن حالة العداء ضد وزارة الداخلية ما زالت تدير عقول الكثير من مديري الصفحات الشهيرة الأخرى على الفيسبوك، وتعيق محاولات التواصل معهم، ويقول: "حين نشر زميلنا ماجد مشاركة ضد تجار الدين، اتهمنا البعض بأننا معادون للإسلاميين، وفي أحداث القائد إبراهيم بالإسكندرية اتهمونا بأننا ضد المتظاهرين لصالح الإسلاميين .. في هذه الأجواء يصعب التواصل أو التعاون مع مديري الصفحات الشهيرة التي تروج لهذا الكلام !". 
الأمر الآخر الذي تعرض له مدير الصفحة شخصيا هو تجربة سيئة حين نشر أحدهم صورة من حديث خاص بينهما عبر الرسائل الخاصة، وقدمها لزوار الانترنت على أمل الإساءة إلى صفحة الشرطة المصرية .
بعيدا عن الصراعات اليومية داخل الصفحة ، تظهر مبادرات على استحياء تحاول الخروج من عباءة الانترنت، منها إعادة طرح فكرة تداولتها صفحات من قبل عن تأسيس مجموعة الكترونية تجمع 1000 ضابط بشكل مبدئي بعد التأكد من هويتهم الحقيقية، وفي حالة سقوط شهيد من الشرطة في العمليات الأمنية يتم تجميع مبلغ 100 جنيه من كل فرد وتوصيلها مبلغ 100 ألف جنيه إلى أسرة المتوفي. وما زالت مثل هذه المبادرات قيد الدراسة، لكن الواقع اليومي هو ما يواجهه مديرو الصفحة يوميا ، ما يدفعهم كل حين إلى توجيه السؤال نفسه إلى أعضاء صفحتهم : ما رأيكم في الصفحة ؟ فيتلقون إجابات داعمة لهم ، وأخرى تحمل انتقادات و ضغينة تجاه ضباط الشرطة بشكل عام.
**
 -        هكذا تكلم الضباط على الفيسبوك
**
قبل أقل من أسبوعين كتب النقيب شريف على صفحته في الفيسبوك الآتي : "اكتشفت سرقة الحساب الشخصي الخاص بي من حوالي أسبوعين وفوجئت بأن السيد مفتش الداخلية استدعاني من حوالي أربعة أيام للتحقيق معي في مقال منسوب لي علي الصفحة، وحينما سألت بعض أصدقائي عن الحل، قيل لي: ريح دماغك وماتدخلش علي الفيس بوك تاني أو أدخل بس حط صور دباديب وقلوب وأكتب قصايد شعر عن الحب والكلام اللي بالك فيه ده ..."، هذه الكلمات نقلتها صفحة "ضباط شرطة مصر يتحدثون" على شبكة فيسبوك الاجتماعية، و تغامر بنشر اقتباسات لضباط شرطة تكشف عن جانب آخر من حياتهم، حيث آراء وشهادات وتجارب من الصعب نشرها في أماكن أخرى.
يخفي أدمن الصفحة وزملاؤه هويتهم تماما ، نتيجة ما تثيره الصفحة من جدل، وهدفهم الرئيسي هو توصيل هذه الأصوات المكتومة لضباط الشرطة إلى أكبر شريحة ممكنة، وهو ما يوضحه مؤسس الصفحة قائلا: "بادرت بتأسيس الصفحة حتى لا يموت صوت الضباط، وكي يتشجعوا على الكلام وعدم السكوت أو التوقف عن المطالبة بحقوقهم المهدرة. لذا دأبت على نقل مشاركات الضباط وكتاباتهم ومشاكلهم و نشرها، سواء من يريد أن يشكر الوزارة أو من يريد انتقادها، على أمل خلق أجواء تضامن من أجل حقوق الضباط وحريتهم".
تأسست الصفحة في مارس من العام 2012، وقبل تأسيسها عرض مؤسس الصفحة فكرته على إحدى الصفحات التي يديرها ضباط شرطة آخرون، لكنها لم تلق قبولا لديهم، بدعوى أن كلام الضباط ومشاكلهم ليست بذات أهمية ليتم التحدث فيها أو نشرها .. ويوضح : " مع كثرة صفحات ومجموعات الضباط فوجئنا بأن الوزارة بدأت في استمالة بعض من يديرونها لأن يكونوا تابعين لتوجيهاتها". يحمل محتوى الصفحة أحيانا شهادات لضباط من موقع الحدث، وينقلون مشاكل يعيشونها يوميا في عملهم. على سبيل المثال نقلت مؤخرا شكوى ضابط من تعسف بعض مديري المباحث في السماح بالإجازات لمن يعملون معه من الضباط، ويقول شاكيا : " يا بهوات الاجازات مش حق الظباط بس ده حق اسرته واهله افهموا كفايه ايلى بنشوفه من الناس كفايه قرفتونا يا بهوات الاجازات مش حق الضباط بس .. ده حق أسرته وأهله ، افهموا كفاية اللى بنشوفه من الناس .. كفاية قرفتونا ". وأحيانا ما يتطور الأمر في بث الشكوى إلى عبارات عنيفة مثل : " هى الوزارة مش عايز تكبر وتعقل، ومش ناوية القيادات تحترم نفسها وتحترم اللى إحنا بنشوفه و بنعانيه ". يبحث مديرو الصفحة عن مثل تلك الأصوات كي يتيحوا لها المجال أن تتحدث في ظل الضغوط التي يتعرض لها ضابط الشرطة الآن، أما وسائل الوصول إلى هذه الاقتباسات فتتلخص في أربع طرق : إما النقل عن طريق مجموعات الشرطة المعلنة أو السرية على الفيسبوك، و نقل ما يكتبه الضباط في حساباتهم الشخصية، و أخيرا ما يرسله الضباط للصفحة في رسائل مباشرة .
لم ينسق مديرو الصفحة على مدار الأشهر الماضية مع وزارة الداخلية أثناء عملهم، ويحرصون على أن يعملوا بعيدا عن أي قيود، وهو ما يشرحه مؤسس الصفحة قائلا: " نحن على علم بأن جميع ما يتم كتابته على الصفحة يتم تصويره و إرساله لوزير الداخلية خصيصا ليتم قراءة أفكار ومشاكل وتوجيهات الضباط. ونريد أن نوضح هنا أن الكثير من المشاكل التي تم نشرها جرى التحقيق فيها ونال الضباط حقوقهم، ونشكر الوزارة على ذلك، لكن هذا لم يحدث مع الجميع".
تتبنى الصفحة موقفا واحدا تلخصه في واجهة الصفحة في عبارات "نحن ضباط شرطة مصر نتحدث عن مشاكلنا .. فهي مشاكل تؤثر في جميع المصريين ... الآن تستمعون إليهم وتعرفون مشاكلهم".
أحد الدوافع التي تحرك مؤسس الصفحة وكثير من الضباط في دعم هذه الموجة من الفضفضة على الإنترنت هو أنها قوبلت بالقمع والرفض في بداية ظهورها عبر الفيسبوك، ويشرح ذلك قائلا: "كانت قصص محاربة قيادات الوزارة لجميع الضباط الذين يحاولون الكتابة أو يبدون آراءهم دائما في بالنا، إذ كان مصير البعض هو التحقيق عن طريق مفتش الداخلية، وهناك من استبعد من عمله لهذا السبب، حتى قيادات الوزارة التي حاولت استغلال الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في التعبير عن نفسها وعن أفكارها ، أحيل بعضهم إلى المعاش المبكر".
هذه الظروف لم تعيق طموح مديرو الصفحة من أن يفكروا في مستقبل تهدأ فيه الأحداث المتتالية والاشتباكات، وأن تتحول الصفحة في المستقبل إلى  مجلة لضباط الشرطة، تعرض كتاباتهم ومشاكلهم وأفكارهم، لكنهم جميعا متأكدون من أن ذلك لن يحدث الآن بالتأكيد.
**
في الداخلية .. معارضون و مؤيدون
**
اختلفت اتجاهات صفحات ضباط الشرطة على الشبكات الاجتماعية، كل حسب موقفه من وزارة الداخلية، فبعيدا عن الصفحات الرسمية للوزارة على الفيسبوك تظهر اتجاهات أخرى تتحرك فيها صفحات الضباط .. الاتجاه الأول يمثل الصفحات التي ظهرت لتعبر عن ائتلافات وحركات احتجاجية، ومن أشهر هذه النماذج صفحة ضباط لكن شرفاء التي تعبر عن ائتلاف بالاسم نفسه ضم ضباط شرطة ومواطنين يرفعون شعارات مثل : "تطهير الشرطة من قتلة الشهداء، ومن ملفقي القضايا ومعذبي معتقلي الرأي"، وهي شعارات تبناها ميدان التحرير منذ الأسابيع الأولى في الفترة الانتقالية. وتضم هذه الصفحة حاليا أكثر من 152 ألف عضو. و نتيجة تدفق الأحداث ظهرت قضايا جديدة مثل قضية الضباط الملتحين المطالبين بأن يمارسوا عملهم دون حلق لحيتهم، فتأسست صفحة للدفاع عن قضيتهم تحت عنوان "أنا ضابط شرطة ملتحي"، تضم حوالي 84 ألف عضو، وتحظي هذه الصفحة بدعم من كثير من الصفحات الاسلامية الشهيرة، إذ تظهر كصفحة داعمة لهؤلاء الضباط، وأغلب أعضائها من المدنيين، حسبما توضح التعليقات.
في الجانب المقابل تماما لهذه الصفحات المعارضة لوزارة الداخلية، كان ضعف الأداء الأمني في الفترة الانتقالية بعد الثورة سببا في ظهور صفحات داعمة للشرطة، على أمل عودة الأمن، فظهرت عناوين صفحات مثل : "معا لعودة الشرطة" ، "الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة"، ومن هذه الصفحات عنوان مميز باللغة الانجليزية هو We Can't Live Without Police التي تأسست في يوم 2 فبراير 2011 . و قد تبدو هذه الصفحات الآن أقل حدة تجاه المتظاهرين على عكس فترات سابقة، حين كانت تثير حفيظة كثيرين اعتبروا ما تنشره هذه الصفحات إساءة للثوار، حين كانت تلك الصفحات تناضل من أجل استعادة هيبة الشرطة.
وبين الاتجاهين السابقين ظهرت موجة ثالثة تعبر عن صوت الضباط الذي لا يصل بسبب صخب الأحداث، معتمدة على نقل مشاهد من الحياة اليومية لحياتهم إلى مستخدمي الانترنت، ويقف مديرو هذه الصفحات في مساحة وسط و لا يجدون أنفسهم في مساحة المعارضة الكاملة، ودون أن يحولوا عملهم إلى صفحات دعائية لوزارة الداخلية.