Saturday, November 3, 2012

البطالة.. سيف على رقاب المواطنين

  • مبادرات تبحث عن حلول.. ويتلاشى تأثيرها وسط الأحداث
•حركة «لكل العاطلين»: نضغط من أجل قضيتنا ومن أجل قضايا العاملين

كتب ــ عبدالرحمن مصطفى:

«البطالة ليست حكرا فقط على الخريجين الجدد الذين لم يجدوا عملا، بل قد تصيب من منعتهم الظروف عن العمل، ولا يجدون دعما». يصف هانى سالم تلك الحالة التى مر بها عدة مرات فى السنوات الأخيرة، يبلغ من العمر 35 سنة، متزوج ويعول، ويسكن فى محافظة بنى سويف. بدأ يواجه تلك الأزمات المتتالية حين تعرض التاكسى الذى يعمل عليه للسرقة فى الأشهر الأولى من الثورة، ودخل بعدها فى شراكة فاشلة فى سيارة نقل ثقيل، جعلته يخسر مبلغا كبيرا، وقضى فترة من التعطل.
 يشرح ذلك: «هذه حياتنا الآن، خاصة فى مجال النقل، وفى مجال عمل السائقين، فأنا الآن أعمل مع مقاول بناء، ونظرا لأن سوق البناء تمر بفترة كساد، فهو ما اضطر المقاول إلى تقليل عدد السائقين العاملين فى نقل مواد البناء».  فى مثل تلك الفترات من التعطل ليس أمام هانى وزملائه سوى استخدام علاقاتهم من أجل الوصول إلى فرصة عمل أخرى كسائقى ميكروباص أو تاكسى، وفى هذه الأثناء قد يسقطون فى فترة تعطل. يقول عن ذلك: «لدى اهتمام ووعى بمشكلة البطالة، لكننى مررت بتجربة سيئة حين حاولت المشاركة فى مبادرة لخدمة القضية».
كان هانى أحد الأفراد الذين اندمجوا فى مبادرة تبناها مدير إحدى الجمعيات التى ترفع شعار محاربة البطالة، وقامت الفكرة على أن يشارك الأعضاء، بمبالغ يسددونها إلى أحد زملائهم حتى يبدأ مشروعه، على أن يسدد لهم ما دفعوه فى وقت لاحق، وهكذا تدور دائرة العمل. يعلق هانى: «ما حدث هو أن التجربة قد فشلت، وتعرض مدير الجمعية للحبس بسبب إخفاقه فى إدارة أموال المشاركين، وأنا خسرت معه مبلغا، وغيرى خسر فرصة سفر إلى الخارج». يطمح هانى كغيره إلى الحصول على قرض بنكى يدير به مشروعه الخاص، وأن يجد إعانة نقابية أو إعانة من الدولة فى حالة تعطله.
ليست كل المبادرات مثل التى شارك بها هانى والتى انتهت تلك النهاية المأساوية، فهناك من اتخذوا الطابع الحركى فى التظاهر والاعتصام للضغط على الحكومة، محمد عبد الله منسق عام حركة «لكل العاطلين» التى تأسست قبل عامين تقريبا، نجح أفراد منها فى مقابلة مسئولين منهم وزيرا قوى عاملة سابقان ورئيس الوزراء السابق كمال الجنزورى، كما التقوا أحد مستشارى الرئيس محمد مرسى، لكن ذلك كله لم يسفر عن الكثير، يرى محمد عبد الله المنسق العام أن هناك مكاسب تحققت، إذ يقول: «طوال الفترة الماضية كانت المشاغل السياسية هى الواجهة لكل الأحداث، لذا كانت قضيتنا تائهة وسط الزحام، مثل كثير من القضايا الاجتماعية الأخرى، فأنا وزميلى خالد الهوارى وبقية الزملاء حين أسسنا الحركة كان هدفنا أكبر من مجرد تشغيلنا فى وظيفة، بل كان أملنا فى طرح المشكلة والمساهمة فى التغيير الذى بدأ فى 25 يناير ولم يكتمل بعد..».
تضامن مع الحركة مئات شاركوا فى عدة مظاهرات، ووقّع 6500 شخص على بيان تبنته الحركة لدعم القضية كما يوضح محمد عبد الله: «أغلب الأعضاء النشطين بلا وظيفة حاليا، ومنا من يعمل فى ظروف غير مستقرة، وفى أعمال مؤقتة». ومن مطالب الحركة أن يتم تطبيق قانون العمل على القطاع الخاص، حتى لا يتعرض العاملون به لمعاملة متعسفة تضيع حقوقهم، وتمنع حقهم فى الحصول على عقد وتأمينات مدفوعة،  كما تطالب الحركة بمنع تعيين أبناء العاملين فى قطاعات الدولة كحق اكتسبته بعض الشرائح فى المجتمع، كما تطالب الحركة بتوفير إعانة بطالة لمن فرضت عليه الظروف أن يتعطل من وظيفته.
قبل سنوات كانت هناك محاولات للحصول على «إعانة بطالة» حسب قانون التأمينات الاجتماعية عن طريق مكاتب العمل، ما حدث وقتها أن رفض الموظفون الحكوميون قبول مثل تلك الطلبات، وكان مركز الأرض لحقوق الإنسان أحد المتابعين لهذه القضية فى العام 2008، حين حاول بعض العمال والموظفين تحريك إجراءات الحصول على إعانة بطالة، ويرى كرم صابر مدير مركز الأرض أن الواقع اليوم مختلف حيث يجب أن يتوجه النضال أولا إلى حقوق العاملين قبل العاطلين قائلا: «هناك عمال لا يحصلون على حقوقهم المادية سواء من الدولة أو من أصحاب العمل، علينا أن نبدأ أولا بهذه القضايا، لأننا ما زلنا أمام دولة تميل إلى صف صاحب رأس المال على حساب العامل.. لذا علينا أن نحقق شيئا فى هذه القضايا وبعدها يمكننا أن نحشد من اجل مشكلة البطالة والبحث عن إعانة بطالة».
 فى الفترة الماضية ظهرت عدة محاولات لتأسيس نقابات للعاطلين، منها محاولة فى إبريل الماضى تحت اسم  «نقابة العاطلين المستقلة» بمدينة دكرنس فى محافظة الدقهلية، وتم التقدم بها لمكتب العمل بالمنصورة،  لتكون أول نقابة مستقلة للعاطلين فى مصر، وبلغ عدد أعضائها فى بداية تدشينها 100 عضو، وكان على رأس أهدافها تشغيل أعضائها فى وظائف حكومية، لكن المحاولة لم تسفر عن شىء. بينما تكررت نفس الفكرة قبل أسابيع قليلة ليتم تسجيل أول نقابة للعاطلين فى مصر بوزارة القوى العاملة وذلك بمبادرة من نشطاء فى مدينة الإسماعيلية، وتهدف هذه النقابة الأخيرة إلى خصم نسبة 1% من الأجر الشامل من كل العمال المصريين فى داخل مصر وخارجها لمصلحة صندوق النقابة، مع صرف إعانة للعاطلين. وتعرضت تلك المحاولات إلى انتقادات حول فكرة تكوين كيان نقابى يدافع عن فئة (العاطلين) التى لم تمتهن مهنة بعد، إذ إن هذه النقابة ليس أمامها صاحب عمل تواجهه لمصلحة حقوق العاملين، كذلك فإن تسجيل هذه النقابة لدى الأجهزة الحكومية يمنعها من التعرض للسياسة حسب اللوائح المعمول بها لأى جمعية أو كيان مؤسسى غير حزبى. وكانت هناك عدة محاولات سابقة على ذلك لإنشاء كيانات تضم العاطلين من أشهرها تأسيس رابطة «للعاطلين» فى عام 2006.
ويعود محمد عبد الله منسق عام حركة «لكل العاطلين» قائلا: «ما لا يشعر به البعض هو أننا نضغط، ونحاول الظهور فى الإعلام، ولقاء المسئولين، ليس فقط لحل مشاكلنا الشخصية، بل لاختبار النظام الحالى ومدى جديته، لذا على الجميع أن يتضامن معنا لحق العامل والعاطل سويا». تلقى محمد عبدالله منسق حركة لكل العاطلين وزملاؤه عروضا وظيفية فى وزارة المالية، بعد لقاء مع أحد الوزراء السابقين، وحين اتجهوا لاختبار مدى جدية العرض، فوجئوا بالموظفين هناك يمتنعون عن الاستجابة لتأشيرات الوزير، ويعلنون أنه لا توجد وظائف لديهم. «توجهنا ببلاغ إلى النائب العام ضد الرئيس محمد مرسى، لأنه وعد بتشغيل العاطلين، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وما زال لدينا المزيد». حسبما يؤكد منسق الحركة.
 
  •  مشاريع الخير فى مواجهة البطالة
تقدم الجمعيات الخيرية مشروعات تهدف بوضوح إلى التقليل من نسبة البطالة فى المجتمع المصرى من خلال مشروعات صغيرة تعمل فى مجالات مختلفة، وحسب دراسة لمركز المصريين للدراسات الاقتصادية، فإن المبالغ المالية التى تم التبرع بها للجمعيات الخيرية فى عام 2012 تبلغ نحو 5.5 مليار جنيه، لكن هذه الأموال لا تحقق فعالية فى تغيير حياة الفقراء، ولخصت الدراسة أسباب ذلك فى أن أصحابها لا يهتمون بمتابعة تلك الأموال وهل حقق إنفاقها الهدف منه أم لا.
وكانت دار الإفتاء المصرية قد أجازت إقامة مشاريع استثمارية وإنتاجية بأموال الزكاة والهبات والصدقات لتوفير فرص العمل للشباب. بعض الجمعيات الخيرية تعمل على ذلك بشكل مباشر فى شكل تمويل وتوجيه مشروعات صغيرة، وجمعيات أخرى تستغل البيانات المتاحة لديها عن أبناء الأسر المتعففة لديها، بهدف توظيفهم لدى من يرغب من الكفلاء المسجلين لدى الجمعية من المستثمرين وأصحاب الأعمال وغيرهم. يرى الدكتور مهدى القصاص -أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة المنصورة أن الجمعيات الخيرية عليها دور فى تقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وإتاحة الفرصة للفقير فى أن يكسب قوت يومه، ويشعره بالأمل. ويضرب الدكتور مهدى القصاص مثلا بثمانى دول غربية نجحت فى بداية التسعينيات من القرن الماضى فى توظيف 11 مليون شخص عن طريق مثل هذه المؤسسات الخيرية، بما يمثل نسبة 20 % من معدل التوظيف فى تلك الدول.
  ويشرح فى دراسة منشورة العام 2010 على موقع المركز الدولى للأبحاث والدراسات أن أفضل طرق دعم العاطلين عبر المشاريع الصغيرة هى أن تطبق بنظام القرض الحسن، ونظام المشاركة المنتهية بالتمليك، ونظام التأجير المنتهى بالتمليك، بعيدا عن أى أعباء (فوائد) كالتى تقدمها البنوك.
  • فى أوروبا والدول المتقدمة يصرفون إعانات 

 يأتى تطبيق فكرةإعانة البطالة فى الدول الغربية امتدادا لمحاولات قديمة بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان، إذ يرجع المؤرخون الغربيون أصولها إلى تأمين البطالة الذى تم تطبيقه فى سويسرا فى العام 1789 عبر الاتحادات العمالية، وبدأت التجربة فى التكرار داخل عدة دول أوروبية، خاصة فى نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، وظهرت نماذج لافتة فى نظم تقديم إعانات البطالة أو «تأمين البطالة» فى عدة دول من أهمها فى تلك الفترة كانت التجربة البلجيكية فى عام 1901.
وانتقل نفس هذا النظام إلى دول أخرى مثل الدنمرك وفنلندا وأيسلندا والسويد. وتعد بريطانيا من أوائل الدول التى طبقت نظام تأمين البطالة بشكل إلزامى على العاملين لديها فى العام 1911 ، ولم يتم الأخذ بهذه الفكرة سوى فى إيطاليا بعدها بثمانى سنوات، أما فى الولايات المتحدة الأمريكية فقد اتضحت ملامح هذا النظام فى العام 1932 إثر الانهيار الاقتصادى الذى عرف فى هذه الفترة باسم «الكساد العظيم»، حين تحول 25% من القوى العاملة فى ذلك الوقت إلى عاطلين.
 وتختلف حاليا شروط الحصول على إعانة البطالة من بلد لآخر ، ويشرح موقع europa.eu لدول الاتحاد الأوروبى ذلك الاختلاف داخل الدول الأعضاء، موضحا بأمثلة حية، منها: أن الشابة القادمة من الدنمرك، التى اختارت العيش والعمل فى دولة قبرص، بإمكانها التقديم للحصول على إعانة بطالة من السلطات القبرصية، لكنها ستفاجأ بأن الإعانة تدوم لمدة 156 يوما فقط، بينما تدوم إلى أربع سنوات فى بلدها الأصلى الدنمرك. وتوضح الدول المختلفة شروط وقيمة إعانات البطالة لديها ، وهو ما يبرز الاختلافات من بلد لآخر تبعا لحالتها الاقتصادية، على سبيل المثال فى فرنسا يشترط على مستحق الإعانة أن يكون قد عمل لمدة أربعة أشهر على الأقل ، و 28 - 36 شهرا لمن هم فوق الخمسين، ثم يسجل اسمه فى مركز العمل- Pôle emploi، على أن يثبت جديته فى البحث عن عمل طوال هذه المدة.
ويتوقف مبلغ الإعانة فى بعض الحالات أيضا على الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمستحق. ففى بلد مثل ألمانيا يحصل على العاطل على مساعدة لمدة عام كامل بشرط أن يكون قد عمل فى وظيفة لمدة 360 يوما فى آخر ثلاث سنوات، على أن يحصل على 60% من دخله السابق، فى حين أن دولة مثل إسبانيا قد رفعت قيمة الاعانة من 400 يورو شهريا إلى 450 يورو فى أغسطس الماضى على أن تكون الأولوية فى الزيادة لمن يعولون غيرهم، وليس لهم مصدر دخل آخر.
ويقدر عدد العاطلين فى العالم بـ200 مليون حسب آخر أرقام منظمة العمل الدولية منهم 75 مليونا تحت سن 25 سنة. أما فى مصر فتبلغ نسبة البطالة 12.6%  أى 3.3 مليون عاطل، ويمثل الشباب فى الفئة العمرية بين (15- 29 سنة) نحو 77.5٪ من إجمالى العاطلين.  وكانت فكرة إعانة البطالة مطروحة فى عهد النظام السابق، إذ وعد رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف بتفعيله ضمن قانون التأمينات الجديد آنذاك، كما طرحت فكرة إعانة البطالة فى العام الماضى مع إنشاء صندوق لإعانة البطالة وربطه بالتدريب.
PDF

Thursday, November 1, 2012

الخواتم تخفي أسرارها

 
عبدالرحمن مصطفى-مصر
في سوق الصاغة بحي الجمالية العتيق، يجلس صاحب المتجر مبرزاً أصابعه التي تحيط بها عدة خواتم فضية، تبدو أصابعه جزءاً من واجهة العرض؛ فهناك نسخ أخرى من خواتمه الشخصية في الواجهة الزجاجية للمتجر ضمن عشرات الخواتم المتنوعة، يشرح سر اختياره تلك التصميمات قائلاً: «يأتيني أحد التجار بتشكيلة من النماذج المتنوعة، وأختار أكثرها رواجاً لدى الزبائن». ليس لديه الكثير من المعلومات عن نقوش الخواتم أو غيرها من الحلي الفضية التي يعج بها متجره، يراها جميعاً «اجتهادات من مصممي الحلي».

تقع ورش صناعة الحلي داخل حارة الصالحية المجاورة على بعد أمتار من هذا المتجر، وفي أعلى الطابق الثاني من إحدى البنايات يجلس محمد خليل الصائغ المخضرم في حي الجمالية محاطاً بكثير من الحلي، بدأ حديثه موضحاً منهجه في العمل: «مهمتي إعطاء الوجه المصري للحلي الفضية، أي أنني آخذ شكل القالب المتعارف عليه عالمياً، ثم أضفي عليه نقوشاً مصرية خاصة». على أي أساس يختار نقوشه ؟ يحتاج الأمر إلى كثير من المحاولات لتشجيعه على الإفصاح بما لديه من أسرار الخواتم المنثورة أمامه. «يمكننا اعتبار الخاتم ملكاً على الحلي المختلفة، فهو الأبرز دائماً في الأيدي، ويحمل عدة وظائف قديمة، منها التبرك، وصيانة الصحة باستخدام أحجار معينة في فص الخاتم، ووظائف سحرية أخرى، لكن كل ذلك انحصر الآن في مهمة تكاد تكون الوحيدة، وهي طقس الزواج». تشرح ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع ﺒﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﺒﻨـﺎﺕ، جامعة ﻋﻴﻥ ﺸﻤﺱ، موقع الخاتم في ثقافة استخدام الحلي في مصر. ورغم هذا الرأي إلا أن الكتابات البحثية المهتمة بالحلي تتناول سيرة الخواتم في مساحات لا تقدمه كملك على الحلي مثلما هو متوقع، بل إن كثيراً من التجار لا يحملون معلومات كافية عن «موتيفات الخواتم» وصلتها بالموروث الثقافي المصري، وحسب أحاديثهم فإن إقبال الشباب على الإكسسوارات يرتبط بشكل عام بنجوم الغناء، بدءاً من سبحة تطوق عنق عمرو دياب، أو أخرى تحيط بمعصم محمد منير، أما الخواتم فإن قواعد السوق تجعل أكثرها بساطة هي أكثرها رواجاً، أما الفتيات فالأمر مختلف، إذ كانت المرأة قديماً تتزين ببعض الإكسسوارات لأهداف مختلفة مثل تعليق حجاب فضي (تميمة سحرية) على رأسها طلباً للشفاء، أما فتيات اليوم فتتجه بعضهن لشراء خواتم ذات استخدامات أخرى، حين يتحول فص الخاتم إلى وسيلة لطمأنة النفس والروح، وأحياناً ما ترتبط اختياراتهن بـأبراجهن الفلكية، أياً كان الحجر المستخدم مثل: العقيق، الياقوت، الزمرد، الفيروز..إلخ.

في ورشة صناعة الحلي يعمل الصنّاع بدأب شديد على تصميمات جاهزة، وأحياناً ما تكون بناء على طلب الزبون، وهو ما يوضحه صائغ الفضة محمد خليل قائلاً: «يأتيني أحدهم طالباً خاتماً فضياً منقوشاً بعبارة خاتم النبي: محمد.. رسول.. الله. في هذه الحالات أنقشه خصيصاً له، رغم أن ذلك ليس منتجاً أقدمه كل يوم». ليس لدى كل صائغي المجوهرات ذلك الوعي بخلفيات النقوش والرسوم المتواجدة على الخواتم والحلي، إذ يحتفظ محمد خليل بحلي تعود إلى أكثر من قرن مضى، «تلك النقوش تلهمنا في إبداع أفكار مختلفة، وهنا يتسلل الموروث الثقافي رويداً رويداً إلى خواتم حديثة الصنع، وبالتأكيد فإن الوظائف السحرية القديمة قد تضاءل الوعي بها تماماً، وانحسرت، وحتى ما أحتفظ به من حلي ريفية أو قاهرية قديمة أستعير منها النقوش فقط، ورغم علمي بمغزى بعض تلك النقوش القديمة بحكم القراءة والاهتمام، فإن أغلب الزبائن لن يعرفوا ذلك». حدثت نقلة في أشكال الحلي وعلى رأسها الخاتم منذ سنوات طويلة، إذ كان التركيز وقتها على استعارة النقوش المصرية القديمة، ثم ظهر تأثير الفن الإسلامي بعدها، وكذلك الطابع المصري الشعبي مؤخراً، ويتم ذلك باجتهاد من بعض المصممين الكبار في عالم الذهب والفضة.

على مسافة غير بعيدة من حارة الصالحية، يقع الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، في بيت الخرزاتي المجاور لبيت السحيمي الشهير بالجمالية، وأمام جهاز للكمبيوتر تجلس الباحثة نورهان فوزي بادئة حديثها: «البحث عن الموروث الثقافي الذي يتناقله صناع الصاغة في ورش الجمالية المجاورة أشبه بالبحث عن إبرة في كوم قش، لم يعد هناك ذلك الوعي..». تفتح فيديو سجلته إحدى جامعات التراث لأحد المتصوفة وهو يتحدث عن سر خواتمه الكثيرة في يده، أحد تلك الخواتم يحمل نقشاً يقول: العاطي الوهاب، وآخر يحمل حجر الزمرد، ولديه آخر يحمل فصاً من العقيق، زاعماً أن تلك الفصوص تؤثر بالإيجاب على الحالة النفسية. ومنذ العهد المصري القديم كانت تلك الاستخدامات مطروحة إذ كان خاتم الجعران جالباً للحظ والفأل الحسن، ومن أشهر تلك الأنواع المرتبطة بطقوس خاصة، «خاتم الزار»، الذي ارتبط بعادة الزار، حيث يرتديه من يرغب في العلاج من المس أثناء الرقص العنيف على الموسيقى الصاخبة، مع خاتم آخر اسمه خاتم العبد، وثالث اسمه خاتم بجلاجل، وبعض الصناع في الريف المصري- حيث بقايا لطقوس الزار- لا يدركون تفاصيل الاستخدام، حسبما يوضح أحدهم في فيديو آخر داخل الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، وتعلق الباحثة سونيا ولي الدين «إن ما رصدته في عالم الحلي يشير إلى أن البيئات البكر ما زالت محتفظة بأفكارها عن الحلي»، توضح ذلك: «جلست في حلايب وشلاتين أتابع الصائغ هناك وهو يصنع خواتم عليها نقوش أقرب إلى تمائم لحفظ صاحبها، وكل قبيلة لها رموزها». في دراسة لها تحت عنوان: الحلي وأدوات الزينة عند نساء جنوب مصر، ترصد خواتم متعلقة بالزار، على رأسها خاتم مختوم من أعلى وفي رمزية، وكأنه مغلق على الجن الشرير. هذه الطقوس تنسحب اليوم أمام طابع جديد يغلف المجتمع المصري، تعلو فيه روح الأصولية الدينية، التي ترفض الشكل الطقوسي خارج الشعائر الإسلامية المعروفة، وهو ما يجعلها نماذج فنية خارج إطار التداول الشعبي. تعلق ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭﺓ ﺴﻌﺎﺩ ﻋﺜﻤﺎﻥ، ﺃﺴﺘﺎﺫ علم الاجتماع موضحة: «لا شك أن ظروف المجتمع تفرض أحكامها على صناع الحلي بشكل عام، لكن الأمل باق في عودة الموروث الثقافي إلى الساحة، فهذا أمر معتاد في الدراسات الشعبية، حين تختفي طقوس لفترة ثم تعود في ظروف أخرى بعد إحيائها، والفيصل هنا هو درجة الوعي بالموروث الثقافي ومدى القدرة على إتاحته أمام الصناع».