Tuesday, July 31, 2012

فوق المنبر.. إمام و خطيب



كتب – عبد الرحمن مصطفى

ما زال الشيخ الشاب يتذكر أول خطبة ألقاها بشكل احترافي في القاهرة، كانت في نفس المسجد الصغير الذي مازال يخطب فيه حتى الآن بشارع بستان الجيش في حي العباسية، "تصادف أن كانت أول خطبة لي في جمعة الرحيل 11-2 -2011 ، لذا لم يكن غريبا أن يكون موضوعها عن الظلم، وعاقبة الظالمين"، يتذكر الشيخ علاء أمين (22 سنة) الطالب بكلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر، هذا اليوم الذي اختار فيه أن يقيم في هذا المسجد أسفل إحدى العمارات، حيث سكن مناسب، وتدريب مبكر على مهنة المستقبل، يشرح ذلك : "إذا قمت بزيارة إلى كلية الدعوة الإسلامية ستجد أن نسبة القادمين من الأقاليم خارج القاهرة تقرب من 99% دون مبالغة، وهم مجبرون على الاغتراب، كذلك فنحن لا تتوافر لدينا فرصة ممارسة الخطابة بشكل احترافي أثناء الدراسة، عدا اختبارات الكلية التي تتم داخل قاعات المحاضرات، لذا أنا هنا في تدريب عملي حتى أتخرج، والجيد في الأمر أن رواد المسجد يدبرون لي نفقات تعينني على عملي". يحتفظ الشيخ علاء بعلاقات طيبة مع الشباب الذين أصبحوا أكثر تواجدا الآن في المسجد أثناء شهر رمضان، لكن ذلك لم يمنع إحساسه بالمفارقة التي عاشها حين انتقل من مركز الإبراهيمية في محافظة الشرقية إلى بيئة عمل مختلفة تماما في القاهرة، و يروي: "أتذكر أول تجربة في حياتي لإلقاء خطبة الجمعة، كنت في الصف الأول الثانوي، وشجعني المصلون على صعود المنبر بسبب مظهري الأزهري بعدما تأخر الإمام، تلك الهيبة وذلك الحضور لدى إمام المسجد والخطيب يتلاشيان هنا تماما في القاهرة، بل يضعف دور الإمام في الإصلاح بين الناس، و يختفي تبجيل المشايخ، وبعد الثورة ازدادت الأمور اختلافا".
في الشوارع القريبة من مسجد "بستان الجيش" ما زالت بقايا طلاء على الجدران تحمل اسم أحد شباب العباسية الذين قتلوا في مايو الماضي أثناء اشتباكات بين المعتصمين أمام وزارة الدفاع وبعض أهالي العباسية، خصوصية المكان دفعت خطيب المسجد أن يشتبك مع الواقع وهو مضطر، خاصة أن جامع النور في العباسية أيضا كان قد شهد صدامات وقتها بين إمام المسجد هناك وبعض المعتصمين، ويقول الشيخ علاء أمين : "كانت هناك حالة حداد في حي العباسية، لذا لم يكن هناك أي معنى لتناول موضوعات بعيدة عن الحدث، فكان موضوع الخطبة عن القتل وعقوبته في الإسلام" . لم يكن هذا الموقف هو الأول الذي اقتحمت فيه السياسة ساحة المسجد، إذ تعرض مرة لموقف محرج أثناء الاستفتاء على تعديل دستور في مارس من العام الماضي ، يقول: " فجأة قاطعني أحدهم أثناء الخطبة رغم أن هذا السلوك منهي عنه بشدة في الدين، وبدأ في اتهامي بأنني أروج ل(نعم) في استفتاء التعديلات الدستورية، وهذا موقف لم أكن لأتعرض له من قبل".

جرعة سياسة

 ما رآه الشيخ الشاب علاء أمين في الفترة الماضية هي تجربة خاضها أئمة و مشايخ وفدوا قبله إلى القاهرة، أحدهم هو الشيخ أحمد عبد الظاهر – موجه أزهري بالمعاش- و يخطب الجمعة في مسجد تابع لإحدى الشركات الكبرى في حي الأميرية بالقاهرة، إذ وفد من محافظة سوهاج إلى القاهرة قبل أربعين سنة، كي يدرس الشريعة والقانون، ومنذ العام 78 اختار العمل في مجال التدريس الأزهري إلى جانب عمله كخطيب مقابل مكافأة شهرية من وزارة الأوقاف. على مدار تلك السنوات، تنقل بين عدد من المساجد داخل أحياء شعبية، و رصد تطورات حدثت داخل المساجد، يوضح: "عبر تلك السنوات من السبعينات حتى الآن رأيت كيف يتنامى دور الإعلام بشدة في التأثير على الناس، وكيف أصبح رواد المسجد ينقلون بعض القضايا الدينية المفتعلة مثل زواج الجارية، وقبلها إرضاع الكبير، وغير ذلك إلى المسجد، وفي جانب آخر تماما فقد ازدادت جرعة السياسة داخل المساجد بشكل لم يكن موجودا من قبل بسبب تراخي القبضة الأمنية مؤخرا". يتحول الخطيب أحيانا إلى صمام أمان يمنع اختطاف المنبر لحساب تيار أو صاحب مصلحة، على حد قوله: "بعد سنوات أصبحت ألقي خطبة الجمعة في مسجد تابع لشركة كبيرة، و يرتاده أيضا سكان المنطقة المجاورة، لذا من مهامي هنا ألا يستغل المنبر كوسيلة ضغط من أجل مطالب فئوية للعاملين في الشركة، أو أن يختطفه أحد المنتمين إلى تيار بعينه، وهو ما حدث من قبل حين فوجئت بمن يصعد إلى المنبر من نفسه دون استئذان وتسبب ذلك في مشكلة، وكان ذو ميول متطرفة". هذه المواقف التي يواجهها الشيخ أحمد عبد الظاهر الذي تجاوز 65 سنة، لم تنسيه نفس الملاحظة التي لاحظها الشيخ الشاب علاء أمين، حول اختلاف دور الخطيب من القرية إلى المدينة، إذ خطب الشيخ أحمد لأول مرة وهو في الصف الثالث الإعدادي في ستينات القرن الماضي بسوهاج، ويعلق قائلا: "كان للشيخ في القرية أدوارا مهمة، في الصلح بين الناس، وتوزيع الصدقات، أما الآن فالواقع مختلف، خاصة مع سيطرة الجمعيات على إدارة بعض المساجد، ومن سلبيات إدارة الجمعيات للمساجد، هو وقوع صراعات على إدارة الأموال داخل مجالس إدارات الجمعيات، ويتنافس البعض في السيطرة على شؤون المسجد كنوع من الوجاهة الاجتماعية، لذا اخترت لنفسي أن أمارس دورا اجتماعيا بشكل تطوعي، خاصة في مساعدة الفقراء، بعيدا عن المساجد الخاضعة لنفوذ أشخاص".
أما الجانب الفني المتعلق بالخطابة نفسها فيتفق كلا من الشيخ الشاب علاء، والشيخ أحمد الأكبر سنا، على أن ما يصنع الثقة على المنبر – حتى في سن صغير- هو الحصيلة العلمية، فكلما ازداد حضور النصوص في الذهن، كلما أسعف ذلك الخطيب، يعلق الشيخ أحمد عبد الظاهر قائلا: "في الثمانينات سافرت في إعارة إلى دولة اليمن، وهناك طالبتني إدارة المساجد أن أقرأ خطبة الجمعة من ورقة، واعترضت، وامتنعت عن الخطابة، إذ أؤمن أن من يفتقد الذهن الحاضر عليه ألا يكون خطيبا".
هاتين الحالتين رغم تباين عمريهما إلا أنهما لا يواجهان كم الضغوط التي يتعرض لها خطباء المساجد الكبرى، التي تحول بعضها إلى منصات لإطلاق المسيرات والمظاهرات، أحد أهم تلك المساجد هو مسجد مصطفى محمود في حي المهندسين، ومنذ جمعة الغضب يشهد الدكتور محمد قاسم المنسي - أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة - تسلل السياسة إلى ساحات الصلاة، وهو ما برز واضحا في خطبته الشهيرة يوم 28 -1 -2011 والمتاحة على موقع يوتيوب لتحميل لقطات الفيديو، حين حاول تهدئة الثوار في كلمته، مطالبا بنبذ العنف، ومراعيا حالة الغضب التي ذكر أنه كان آنذاك يلمسها بين الناس بشدة، وعلى مدار أكثر من عام ونصف لم يخلو الأمر من حوارات ساخنة بين الدكتور المنسي- خطيب مسجد مصطفى محمود- وبين بعض المتظاهرين، خاصة حين يجدون في خطبته دعوة إلى التهدئة، يعلق قائلا: "بالفعل حدثت حوارات جانبية بعد الصلاة مع شباب رأوا في كلماتي تهدئة، فأوضحت أنني أؤمن بأنه ليس على الخطيب أن يثير الثائر، بل أن يعمل على تهدئته من أجل مصلحة البلاد". لا يخفي الدكتور محمد قاسم المنسي رفضه لبعض الهتافات التي كانت تعقب مباشرة صلاة الجمعة مثل : "يسقط حكم العسكر"، عدا ذلك فيؤمن بأن على الخطيب أن يحقق معادلة هامة هي : ألا يسمح بتوظيف المسجد في خدمة السياسة. وحسبما يذكر فإن "هناك أزمة حقيقية في إدارة المساجد على مستوى الحكومة، و على مستوى الجمعيات التي تدير شؤون المساجد، في عدم قدرتهما على مراقبة كفاءة من يخطبون على المنابر، وهل يستغلوا المسجد في الترويج السياسي أم لا". ويتفق أغلب الفقهاء على شروط واجبة في الإمام والخطيب على رأسها: سعة العلم، وإجادة القرآن، والتفقه في الدين، وحسن الخلق، يضيف الدكتور محمد قاسم المنسي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة صفات أخرى تلائم المرحلة التي نعيشها الآن ، وهي " الثبات النفسي وسعة العلم وكثرة الاطلاع ".

Thursday, July 26, 2012

وجوه في مرايا التصوف ..

عمرو فكري .. التأمل طريقا للفن
"أحيانا ما أنطلق في رحلات أشبه برحلات المتصوفة في رحاب الله، حاملا معي الكاميرا لتوثيق مشاهداتي وتأملاتي "، يلخص الفنان عمرو فكري علاقته بالفن والتصوف معا، إذ لم يعد يشغله سوى التعبير عن النفس الصوفية بواسطة الفن المعاصر. يقتبس من نصوص كبار المتصوفة أمثال النفري وابن عربي وابن الفارض، مازجا إياها مع صور التقطها بنفسه و تصميمات فنية تعبر عن تلك الرؤية، لتخرج أعمالا تعكس قناعاته ونمط حياته اليومية، إذ يعيش كما يعيش الزاهد في شقة أعلى أسطح إحدى عمارات وسط المدينة، أما منزله فهو أقرب إلى خلوة تفصله عن صخب العاصمة، تعطرها أحيانا رائحة أعواد البخور. يمثل عمرو فكري شريحة اختارت أن تكون نموذجا عابرا للطرق الصوفية التقليدية، بعد أن احتك ببعض مشايخها، و اختار ألا يأخذ العهد من أحدهم، وأن يبتعد عن البناء الهرمي لهذه الطرق، وأن يحمل التصوف في داخله، كنمط  تفكير وأسلوب حياة.
"أنا أتبع الفكرة وليس صاحبها .. والفنان لا يقبل المحدودية"، هذه العبارة ليست تبريرا لاختياراته، يشرح ذلك بالحديث عن تجربة أخرى خاضها في فترة مبكرة من سن المراهقة حين عرف التدين التقليدي، ثم انتقل في سن التاسعة عشر إلى كتابات المتصوفة العظام أمثال "محي الدين بن عربي ، و عمر بن الفارض". أما اليوم فيجلس مطمئنا بعد أن أنهى مشروعا تحت عنوان "قدس الأقداس" أنجزه على مدار سنوات وعدة مراحل، وبعضها كان ينجزه بعفوية آخذا بمبدأ أن "كل خطوة علامة وإشارة"، يرى أن يقوده إحساسه دون حسابات للخطوة التالية، يبتسم قائلا : "أحيانا ما أجد مشروعات فنية صممتها محفوظة على الكمبيوتر، وجاءت الفرصة أن أطلقها الآن". ليس أغلب الفنانين المعاصرين يفكرون بالطريقة نفسها حين تشغلهم تسويق مشروعاتهم أو البحث عن دعم. اختار عمرو فكري تتبع نمط حياة الصوفي، وهو ما يلهمه بأفكار أكثر اختلافا في عمله، يشرح ذلك قائلا: "بعد أن أنهيت دراستي في كلية الفنون الجميلة عام 2001، كان لدي مخزون من الفكر الصوفي، أردت تجسيده في أعمال، وكانت البداية مع معرض حضرة مولاي في 2002، وبعد إنهاء العمل وجدت الفرصة لعرضه، كانت الحركة في البداية، ثم أعقبها التوفيق، وفي كل عمل أسير حسب تلك الرؤية، وانتقلت من فكرة معرض إلى الآخر، حتى اكتمل المشروع الذي استغرق سنوات".
في صميم عمله تبزغ حالة من الوفاء لشيوخ المتصوفة يمكن للمتابع أن يتلمسها في مشاهد من صور معارضه التي تحملها جدران المنزل، حيث لوحات تجمع بين الخط العربي ورقص المولوية ونصوص عمر بن الفارض. هذا الوفاء يحمله عمرو فكري أيضا لشيخ آخر هو الفنان حامد سعيد (١٩٠٨-٢٠٠٦) الذي تتلمذ على يديه في (جماعة الفن والحياة)، هناك تكونت علاقة أقرب بعلاقة الشيخ بالمريد، و يقول عن ذلك : "كان لديه ذلك الحس الصوفي، حين يجيبك على أسئلة تحتفظ بها داخلك، ولم تطرحها على أحد". تلك التجربة مع حامد سعيد جعلته يرى النفس المتصوفة في امتدادها بدء من الحضارة المصرية القديمة، مرورا بالعصر المسيحي، ثم انتهاء بالعصر الاسلامي، وهناك تعلم أن "الوعي هو ما يخلق القيمة" وهو محور تفكير هذه المدرسة.. و في علاقتنا بالتاريخ كانت هناك ملامح للروح المصرية، التي اقترب لتجسيدها أبي الحجاج الأقصري وذي النون المصري في صلتهما بالروح المصرية مع فهم الدين والتصوف.
هل كانت تجربة التدين التقليدي والاقتراب من التصوف طريقا لتقديم وجها آخر للدين ؟ يجيب ببساطة : "الله لا يحتاج من يدافع عنه مثلما تفعل بعض التيارات السلفية المتشددة، وفي الناحية الأخرى لا يجب أن تكون هناك مبادرات مضادة كرد فعل، هناك من يخطؤون ويتخذون هذا المسلك، وما أعرفه واختبرته جيدا أن الفن هو توصيل إحساس أو فكرة، و أبعد من الماديات الملموسة و تسجيل المواقف".
طارق غانم : الصوفي الحق .. هو الثائر الحق
لدى طارق غانم قناعة بأن "الثورة هي جهاد العصر" وأن الانتماء الصوفي لا يجب أن يمنع أحدا من أن يقف في وجه الظلم والفساد، و يشرح ذلك قائلا: "أعلم أن العديد من مشايخ الطرق الصوفية أظهروا موقفا سلبيا من الثورة، وأيدوا مرشحا من رجال النظام السابق، لكن على أرض الواقع فالتاريخ يذكر أن التجربة الصوفية كانت حافزا في أوقات كثيرة على النضال و الجهاد". يستعير طارق أمثلة من مئات السنين كان للمتصوفة فيها مواقف إيجابية في الجهاد. وبحكم عمله كباحث متخصص في الشؤون الإسلامية، فباستطاعته أن ينقل اجتهادات تبناها هو وآخرون يعتبرون فيها الثورة جهادا مشروعا، وعلى حسب قوله : "يتوقف ذلك على فهمنا لفكرة التغيير الجذري وكيف تبناها الرسول الكريم في أسلوب إدارته، وكذلك كيف يمكننا أن نفهم فكرة أخرى هي: الخروج على الحاكم، والتي علينا أن نفهمها الآن في ضوء أننا في دولة قومية حديثة مختلفة تماما عن حالة الدولة قديما، إذ أن الحاكم اليوم هو النظام، وليس الرئيس فقط". هذا ما يراه طارق غانم الباحث في الشؤون الاسلامية ومسؤول المطبوعات في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
بعد إقامته لخمس سنوات في الولايات المتحدة، تزامنت عودته إلى مصر مع أسرته مع أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر 2011، حيث استشهد الشيخ عماد عفت أحد الذين ارتبط بهم طارق بشكل كبير، لكن ذلك لم يعقه نفسيا من الاندماج في المظاهرات والفعاليات طوال الفترة التالية، بدء من رمي الحجارة، حتى المشاركة السلمية في الاعتصامات، ووراء كل مشاركة كان هناك هدف آخر ديني وأخلاقي، وهو ما يشرحه قائلا : "حين كنت أشارك في فاعلية لحملة (كاذبون) أو حين دعمت حملة (لا للمحاكمات العسكرية)، كان ذلك بوعي ثوري، إلى جانب الوازع الديني والأخلاقي في نصرة الحق وكشف الباطل" . كل هذا الانخراط يدفع إلى سؤال حول : هل يعيق الانتماء الصوفي والارتباط بمشايخ ناصروا النظام السابق ورموزه أن يشارك الشاب المتصوف في الثورة ورحلة التغيير بكامل طاقته؟ ما حدث في رأي طارق أن هناك موجة شبابية بين التيارات الاسلامية قد تمردت على قياداتها في لحظة الاختيار بين التغيير أو المهادنة . يمكن رصد ذلك في مواقف شباب الإخوان الذين انفصلوا عن الجماعة، ويضرب مثلا بنموذج آخر هو شباب السلفيين الذين أنتجتهم الثورة وشكلتهم في كيانات ذات سمعة ثورية مثل (سلفيو كوستا)، أما بالنسبة لشباب المتصوفة فيقول طارق : "لقد حدث بالفعل جدل بين شباب ينتمون إلى طرق صوفية، ومشايخ لم يظهروا الإخلاص للثورة ، أما الأكثر وضوحا فكان بين شباب الأزهر الذين عارضوا موقف مؤسستهم في مواقف مختلفة، بل وشكلوا كيانات معارضة شاركت في  أحداث الثورة وما تلاها من احتجاجات، وأستطيع أن أؤكد أن شريحة كبيرة منهم ذوي انتماء صوفي".
يعمل طارق غانم على عنوان كتاب يدرس فيه "مستقبل التدين بعد الثورة"، ولمس فيه بعض النتائج الأولية منها : أن التدين كان يشكل أحيانا عبئا على الفرد في فترة قبل الثورة بسبب الضغوط الأمنية، ولما انكسرت تلك القيود عاد عبء التدين بشكل مختلف نتيجة ما وصفه "بشيطنة الاسلاميين"، وعاد التدين ليصبح وسيلة تنميط وإدانة، يصف ذلك قائلا : "أتعرض أنا شخصيا لذلك أحيانا، فاللحية الخفيفة ومشاركتي السياسية، تجعل البعض ينطلق قائلا : إنت إخوان .. مش كده ؟َ!". يدرك طارق أن هناك صورة نمطية عن التصوف تجسدها صورة الدرويش غريب الأطوار أو الشيخ المسالم كرموز للسلبية و الانسحاب من المجتمع، وهو ما لا يتفق مع مزاج شريحة من الصوفيين الثوار أمثاله، يعلق على ذلك : "بعد رحلة معرفية اخترت الطريقة الشاذلية الدرقاوية الهاشمية، أغلب مشايخها من أهل الشام، وذلك اختيارا لمذهب أهل السنة والجماعة الذي أصبح يطلق اليوم فقط على السلفيين، و لي في أحد مشايخ الطريقة نموذجا على الرجل المبدع والفعال، و هو الشيخ عبد الرحمن الشاغوري الشاعر، والقيادي العمالي في سوريا". ورغم ما أنتجته الثورة وما صاحبها من مسيرات واحتجاجات من كيانات جديدة للشباب المتدين أو الاسلامي، ما زالت تلك الشريحة من الثوار المتصوفين يخوضون رحلة التغيير بشكل فردي، ودون كيان يجمعهم على أمل التغيير من أسفل.
مجاهدون ومناضلون
لم يمثل التصوف عائقا في اتخاذ مواقف إيجابية على المستوى السياسي، إذ كان بعض حكام المسلمين من المحسوبين على التصوف، مثل صلاح الدين الأيوبي حتى أنه عزز ذلك بإنشاء خانقاه للصوفية في عصره، كذلك كان الحال مع الظاهر بيبرس الذي أبدى دعمه للعارفين بالله في عصره وعلى رأسهم السيد البدوي، لكن تظل تجربة "الرباط الصوفي" كمنصات جهادية هي الأكثر دليلا على اندماج المتصوفة في الشأن العام والعمل النضالي، وفي فترة مبكرة عرفت الدول الإسلامية وخاصة في الشمال الافريقي فكرة "الرباط" التي تقوم على تجميع المجاهدين المدافعين عن الثغور، وطلبة العلم والزاهدين، ويعرف الرباط أيضا "بالزاوية" وفي العصر الحديث ظهرت بعض الشخصيات النضالية التي تحمل تلك الخلفية الصوفية الجهادية، وعلى رأسهم عمر المختار في ليبيا الذي انطلق عمله النضالي من زاوية تابعة للطريقة السنوسية في واحة جغبوب.
محمد القادري .. شيخ طريقة، شغوف بالطاقة والروح
يقدم محمد لطفي نفسه كخادم الطريقة القادرية العلية في مصر، وبعد سنوات من أخذ العهد من شيخه أصبح يحمل مسؤولية تمثيل الطريقة، إلا أن ذلك لم يوقف شغفه بالفلك وعلوم الطاقة والروحانيات الذي صاحبه منذ الصغر، يصف ذلك قائلا: "أقارن بين ما لدي من موروث إسلامي، وما تقدمه تلك العلوم من تفسيرات للخوارق والصفاء الروحي الذي يشعر به العارفون بالله".
يبلغ محمد لطفي (القادري) 30 سنة  وهو خريج معهد فني تجاري، وحاصل على إجازات شرعية في الحديث والفقه واللغة والأدب، كما تلقى دورات في البرمجة اللغوية العصبية والعلاج بالطاقة، وفي هذه الجزئية تحديدا يستدعي في حديثه العديد من النصوص والمأثورات الإسلامية التي تدعم وجهة نظره، يضرب مثلا بقصة عمر بن الخطاب مع سارية أحد قادة الفتوحات الإسلامية، حين نادي وهو يخطب بين الناس قائلا : "يا سارية الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم، فقد ظلم"، وفي هذه اللحظة كان القائد سارية قد سمع النداء نفسه، وهما على بعد مئات الكيلومترات ويستخدم الكثيرون هذه القصة للتدليل على القدرة على التخاطر الذهني.  يستخدم القادري بعض المفاهيم مثل "الجلاء السمعي البصري"، ومفاهيم أخرى تداولها علم الباراسايكولوجي و البرمجة اللغوية العصبية، وذلك ليرى المفهوم الأقرب إليها في الموروث الصوفي مثل "الكشف " الذي ترفع فيه الحجب فيتلقى العارف بالله علما ومعرفة خبرات لا ينالها الآخرون. و يضيف مثالا آخر : "التربية الروحية قد تصنع خوارق، كأن تجد راهبا بوذيا يرتدي إزارا خفيفا في بيئة جليدية فوق جبال التبت، مثل هذه المشاهد سمعنا وقرأنا عن أشياء شبيهة بها في ميراثنا الصوفي، و الهدف من دراسة علوم الطاقة هو فهم ذلك في إطار علمي". هذا التوجه يتعرض لانتقادات من البعض الذي يرى في تلك العلوم وعلى رأسها علم "الريكي Reiki " أنها تجارب وافدة من حضارات غير اسلامية، وهو ما يرفضه محمد القادري تماما قائلا : "نحن لا نأخذ عقائد، بل علما .. حتى اليوم ما زلت أتذكر حلقة من برنامج الدكتور مصطفى محمود التي كانت عن اللمسة الشافية، وتقدم طبا بديلا، وأحزن حين أرى انتشار العلاج بالحجامة في الخارج ونحن ما زلنا لا نهتم به هنا في بلادنا رغم أصوله الإسلامية .. علينا ألا نخشى من تجارب الآخرين لأننا في النهاية سنجد ما هو قريب منها لدينا". أحد الخبرات التي تعلمها محمد القادري هو العلاج بالريكي )العلاج بالطاقة(، أي تحقيق التوافق في الطاقة الداخلية لجسم الانسان من خلال جلسات استشفاء وتدريبات تتم على يد المعالج، حاول القادري أن يدير هذه الجلسات بشكل إسلامي، فبينما يتعرض الشخص في الجلسات التقليدية لتدريبات مثل التنفس بشكل عميق، والتأمل، جرب محمد القادري طريقة أخرى تعتمد على ضبط الشهيق والزفير مع ذكر أسماء الله الحسنى وقراءة الفاتحة، في موقف شبيه بحلقات الذكر والحضرة الصوفية، وفي تدريبات أخرى يستبدل فكرة استحضار مشهد مبهج بصورة الكعبة المشرفة، يقول عن ذلك قائلا : "أذكر في هذا المقام مولانا زين العابدين علي ابن الحسين الذي كان إذا توضأ اصفر وجهه، وإذا قام إلى الصلاة ارتعد، وذلك لأنه يستحضر عظمة الله في قلبه، وهذا هو تأثير الجانب الروحي على الجانب الجسدي". استشار محمد القادري أحد المحامين من أبناء الطريقة في إمكانية استخدام هذا النوع من العلاج، فتأكد أنه غير مصرح به في مصر. هذا الاتجاه الإسلامي حتى الآن ليس شائعا في التعامل مع هذا النوع من العلوم والفنون، و هو يعلق على ذلك قائلا : "في نهاية سنوات عمره قدم الدكتور إبراهيم الفقي رحمه الله ذلك المزيج بين فنون التنمية البشرية ونماذج وأمثلة من الموروث الإسلامي، أما ما أطمح إليه هو أبعد من ذلك، أن أرى في موروثنا الصوفي طريقة علاجية دون أن أخجل من أن أستعير من علوم أخرى".
·       الريكي Reiki
هي كلمة من شقين (ري) : الطاقة الكونية، و (كي) : الطاقة الشخصية ، وهو علم ياباني من أصول صينية، يهدف إلى تحقيق التوافق الداخلي عبر تدريبات، واستخدام اليدين في علاج أماكن محددة، أو عبر جلسات تأمل تحقق الصفاء الذهني، وتخفف التوتر، وتشفي الآلام. والريكي من أشكال الطب البديل، ويعتمد على افتراض وجود سبعة مراكز للطاقة في جسم الإنسان، وأن انسداد مسارات الطاقة في الجسم يسبب الأمراض النفسية والجسدية.
·        البرمجة اللغوية العصبية
مجموعة من الطرق والمناهج التي تساعد على حل بعض الأزمات النفسية والسلوكية، من أجل تحقيق حياة ناجحة، وتساعد على استخدام العقل بشكل أفضل، كما تعمل هذه التدريبات والطرق على عدم الاستسلام لبرمجة العقل على أداء معين وطرق استجابة واحدة، بل على إعادة برمجة استجابة الإنسان للمواقف بشكل أكبر.
·       العلاج بالاسترخاء
يعتمد هذا العلاج على تلك العلاقة بين التوتر النفسي والتوتر العضلي، كما يعتمد على محاربة التوتر عن طريق استرخاء أعضاء الجسم، وبتدريبات يلقنها مدرب في بداية الجلسة هدفها تحقيق الصفاء الذهني.

PDF

Monday, July 16, 2012

سكان الشقة الواحدة


سكان الشقة 22 رشيد ــ مصر الجديدة: خد مساحتك.. واشتغل براحتك 
فى 22 شارع رشيد، شقة فى بناية قديمة ذات طراز متميز، لا تختلف ملامحها كثيرا عن البنايات المجاورة قرب ميدان الاسماعيلية فى حى مصر الجديدة، لكن استخدامها مختلف تماما. «هنا مساحة لكل من يريد العمل، ولا يتوافر له المكان»، يلخص أحمد سلامة (23 سنة) طالب السنة النهائية فى إحدى الجامعات الخاصة الهدف من وجود هذا المكان.
خارج الشقة لافتة تحمل اسم «22 رشيد»، أما نوع النشاط فهو co-working space أى مساحة عمل مشتركة، وهى ترجمة لفكرة انتشرت فى الغرب مع بداية الألفية، تعتمد على إتاحة أماكن لشرائح الشباب الذين يعملون بشكل حر دون مكاتب، وكذلك الطلبة الذين يمارسون أعمالهم بهدوء، خاصة مع ازدياد أنواع جديدة من المهن لا تحتاج سوى توافر أجهزة كمبيوتر شخصية والإنترنت، بعيدا عن الشكل المؤسسى التقليدى.
يعمل أحمد سلامة هنا بشكل تطوعى إيمانا منه بالفكرة التى لم تنتشر فى مصر بالقدر الكافى، إذ بدأت علاقته بالمكان حين جاء قبل سنة باحثا عن مكان يحاضر فيه عن «تنظيم الوقت»، إذ يعمل أحيانا كمدرب فى مجال التنمية البشرية، يصف تلك التجربة قائلا : «بعض من جاءوا فى البداية كانوا يبحثون عن التقليدية، مثل سكرتيرة تحول له المكالمات، وفراش يصنع المشروبات للضيوف، هؤلاء لا يكملون معنا هنا، لأنهم لم يدركوا الهدف». يمر أحمد بين الغرف الفسيحة شارحا كيف يمكن الاستفادة من المكان فى تنظيم ورشة عمل، أو تنفيذ مشروع شخصى بهدوء، أو حتى المذاكرة، يشير ناحية المطبخ، مضيفا: «عليك أن تترك هنا كمية من الشاى والقهوة بدلا من التى استهلكتها، وأن تنظف الأكواب، وأن تحرص على نظام المكان .. هنا أسلوب حياة، وطريقة جديدة فى العمل».
فى الغرفة المجاورة كانت الألمانية «أوليركة فون رويكر» (43 سنة) التى أسست «22 رشيد» تنهى حديثا سريعا مع إحدى الضيوف، وتقول : «المسألة ليست فقط فى إتاحة مكان للعمل، الموضوع بالنسبة لى أقرب لرسالة أريد نشرها، فالفكرة تقوم على المشاركة والتعاون، فأغلب محتويات المكان تبرع بها الزوار الدائمون والمؤمنون بالفكرة». هذه المحتويات تبدأ بورق يتم اعادة استخدامه والكتابة على ظهره، انتهاء بالأريكة والمروحة الكهربائية، أما بداية التأسيس فقد كانت فى عام 2007 دون ترويج أو دعاية، خوفا من التضييق الأمنى، الذى رأته أولريكا فى تجارب شبيهة، حتى تغير الوضع بصورة كبيرة بعد ثورة 25 يناير، فى ظل ازدياد عدد المبادرات ووجود حالة أكبر من الحرية فى الحركة، وتوضح مخاوفها قائلة: «هذا المكان ليس شركة تجارية، هو مجرد مبادرة غير هادفة للربح، وأعترف أن هناك مشكلة فى التعامل مع هذا النوع من المبادرات فى مصر، سواء من الناحية القانونية أو الاجتماعية». عن نفسها فهى تتعامل مع الأمر ببساطة أكبر، فالمالك الذى تستأجر منه الشقة لا يعارض هذا النوع من النشاط، كما لا يبدو على المكان أنه يهدف إلى الربح أو إدارة أعمال تجارية، هنا يتدخل أحمد سلامة ضاربا مثالا بصديقه مازن الذى كان متطوعا سابقا فى «22 رشيد»، ويدير اليوم مكانا شبيها فى حى المعادى اسمه «District»، إذ فوجئ مازن فى مكانه الجديد بمن يوصيه بأن يسدد التأمينات للزوار الدائمين معتقدا أن هؤلاء الزوار من العاملين فى المكان، لأن الفكرة لم تصل بعد إلى الكثيرين، «كل ما نستطيع تقديمه من دعم لمازن فى تجربته الجديدة أن نحول إليه من يريدون تجربة الفكرة والقريبين من حى المعادى» حسبما يقول أحمد سلامة.

للعمل فقط
فى عام 2011 أجرت مجلة «ديسكماج» المهتمة بهذا النوع من الأعمال دراسة على نماذج «لمساحات العمل المشتركة»، وضمت العينة 661 فردا فى 24 دولة، وذكرت النتائج أن الغالبية قد أصبح لديها حافز أكبر على العمل، وأن أكثر من نصف العينة قد كونت فرق عمل نتيجة اختلاطهم فى هذه الأماكن، وأعطت الدراسة نتائج أخرى لها دلالاتها على رأسها أن متوسط أعمار المشاركين فى «مساحات العمل المشتركة» هو 34 سنة، وأن أغلبهم من العاملين فى مجال تقنية المعلومات وتصميم الجرافيك، وكذلك من الكتاب المستقلين الشباب.
فى «22 رشيد» يأتى الزائر إما عن طريق صديق أعجبته الفكرة واستفاد منها، أو عبر صفحات الفيس بوك مثل : CairoSpaces، أو Rasheed22، يملأ الزائر فى المرة الأولى استمارة تعارف، ويحدد الساعات التى يرغب فى الوجود فيها، والغرض، وتتراوح الأسعار بين 50 جنيها للفرد فى اليوم الكامل، و10 جنيهات للساعة الواحدة أما المجموعات فتدفع 50 جنيها لنصف يوم من الوجود أو 100 جنيه لليوم الكامل، وقد يشمل ذلك تأجير قاعة وإلقاء محاضرة، واستخدام الإنترنت والأدوات المتاحة للعمل، وهذه القواعد مرنة وفقا لكم تردد الزائر على المكان.
تعلق أولريكة قائلة: «بالكاد نحاول تسديد إيجار المكان، والحال أفضل بكثير عما كان عليه قبل الثورة، وهذا شىء إيجابى جدا فى ظل الأحداث التى تمر بها البلاد، إذ يثبت ذلك أن هناك من لايزال يعمل ويبادر دون قلق من المستقبل». تقيم «أوليركة فون رويكر» فى مصر منذ حوالى 15 سنة، وعملت فى فترة سابقة فى الغرفة التجارية الألمانية، وتزوجت بمصرى وتعيش فى القاهرة. وتقول: «أنا مؤمنة بأن المستقبل سيخدم هذه الفكرة، التى تساعد من يريد مساحة لتخطيط مشروعه، أو العمل الخاص، أو المذاكرة، لأن البديل هو الكافيهات أو دور العبادة، وهى ليست أماكن عمل فى النهاية .. ولنسأل أنفسنا لماذا لا توجد بدائل؟». ورغم حالة الترحاب الموجودة فى حديث أحمد وأولريكة إلا أن ذلك لا يمنع وجود تحفظات، على رأسها أن هذا المكان ليس للمناقشات السياسية أو التنظيمية، وكذلك من الممنوع استخدامه لأغراض الدعوة الدينية أيا كان المذهب، «هذا المكان للعمل فقط!!»، على حد قولهما.
يحرص «22 رشيد» على نشر سلوكيات أخرى بين الزوار، مثل ما يقوم به أحمد وأولريكة من تصنيف المخلفات وإعطائها لإحدى الجهات التى تعمل على تدوير المخلفات وإعادة تصنيعها، كما يهدف إلى نشر ثقافة التعاون، وهو ما يوضحه أحمد سلامة قائلا: «بعض الزوار وخاصة من أبناء المجال الواحد يتقاربون ويحدث بينهم تعاون بدءا من تبادل أدوات العمل، انتهاء بدخول مشروعات مشتركة، سواء كانوا من العاملين فى مجال التنمية أو فى تقنية المعلومات، وفى النهاية هذا اختيار الفرد». ما طبيعة مرتادى المكان والسمة الغالبة عليهم؟ الإجابة بحسب أولريكة: «هى شريحة لديها حس إبداعى، وعلى درجة جيدة من التعليم والمهارات، وجادون فيما يطمحون إليه».

Sunday, July 8, 2012

الزعماء في مرآة الانترنت

كتب – عبدالرحمن مصطفى

"من "البوب " الي شباب تويتر و فيس بوك: أزداد شبابًا بكم"، هذه الجملة التي كتبها الدكتور محمد البرادعي على حسابه في موقع تويتر للتدوينات القصيرة "تويتر"، هي التطور الأخير لصورته على الانترنت، وطوال الفترة الماضية أطلق عليه مديرو الصفحات الداعمة له على الانترنت هذا اللقب المتداول بين الشباب، في إشارة إلى زعامته.. ورغم هذه الروح الساخرة إلا أن رصانة البرادعي لم تتلاشى في التدوينات القصيرة التالية، بل لم يعد غريبا على شخصية مثل محمد يسري سلامة أحد مؤسسي حزب الدستور والمستقيل من حزب النور السلفي، أن يكتب هو الأخر على تويتر قبل أيام جملة مثل " بس البوب جامد، هو ريس لوحده كده من غير رئاسة". وبعيدا عن هذه التعبيرات الطريفة التي استخدمها مؤيدو البرادعي فهناك صورة أخرى تتكرر في المجموعات الداعمة له على شبكة فيسبوك الاجتماعية، عن "الزعيم الذي لم تسمع الأمة أراؤه"، ويتكرر ذلك بنقل مساهمات أعضاء هذه الصفحات مثل صفحة "أنا البرادعي" التي نقلت مؤخرا عن أحد أعضائها : البرادعي مش لازم ينزل اعتصام عشان يقول موقفه..الراجل موقفه معلن من بعد الثورة بأيام واظن الأيام أثبتت صحة موقفه..". وإمعانا في التأكيد على ذلك يتبادل مستخدمو الانترنت أقوالا قديمة للبرادعي في مواقف سياسية للتأكيد على نظرته الثاقبة. هذا الاهتمام بتأكيد الأنصار على قوة أراء السياسي الذي يدعمونه يتكررأيضا مع الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل فمن بين عشرات الصفحات الداعمة له على فيسبوك تتفرغ صفحة كاملة لجمع أقوال الشيخ حازم، ويجد الزائر نفس النبرة في ملصقات الكترونية، إحداها يقول: "العسكر ثعالب وذئاب" وأسفلها "ياريتنا سمعنا كلامك". وكذلك يتشابه التعامل مع النبرة الشبابية والشعبية مثلما هو الحال مع البرادعي، إذ لا تستنكر شريحة من أنصار الشيخ حازم استخدام لقب "ولاد أبو اسماعيل" رغم أنه مستعار من فيلم بوحة الشهير. وتعد إحدى أهم الأدوات التي يستخدمها مؤيدو القادة السياسيين لإشاعة فكرة كثرة عددهم، هو نسبهم إلى اسم السياسي، مثل : البرادعوية، حازمون، فاتحون، ما يعطي زخما لهذه الزعامات على الانترنت.
وفي الجهة الأخرى تلعب الصفحات المؤيدة للرئيس المخلوع مبارك نفس اللعبة حين تستعير بعض أقواله وتنشرها في ملصقات الكترونية بين الصفحات المؤيدة له، الا أن الاهتمام الأكبر في مجموعات مثل "انا آسف يا ريس"، "الأغلبية الصامتة" ينصب على نشر الأخبار بصورة أكبر.
PDF


Monday, July 2, 2012

الخوف من الأغراب: ابحث عن العدو الوهمي خلال الأزمات

كاميرا و أجنبي .. المعادلة الصعبة في الشارع المصري
كتب – عبد الرحمن مصطفى

يحمل سامي شاهين الجنسية الأيسلندية، كما يحمل وجها ذي ملامح مصرية صميمة، لكن هذا لم يمنع عنه المواقف المزعجة التي تعرض لها في الفترة الماضية، "في مدينة الاسماعيلية حيث تنتمى أصول العائلة، فوجئت بأحد الأهالي يصرخ عقب صلاة الجمعة، مستهجنا شكل ملابسي المختلفة، وحقيبتي الكبيرة، وأصابه الفزع والشك في هويتي دون سبب واضح"، لا يخفي سامي سخطه معتقدا أن "النظام يتعمد تخويف الناس من الأجانب و المعارضين ليقوي موقفه"، على حد قوله . يعمل سامي شاهين (31 سنة) في مجال الإخراج والتصوير، لذا كان أكثر تأثرا بالإعلانات التي اذيعت مؤخرا للتحذير من نشر المعلومات عبر الانترنت، ومن الجواسيس الأجانب في داخل مصر، و كان شعارها : "كل كلمة بثمن.. الكلمة تنقذ وطن". يقول سامي شاهين: "مفيش جواسيس في الدنيا بالغباء اللي في الاعلانات دي !!" . يطلق عبارته متذكرا ما تعرض له العام الماضي في مدينة السويس، أثناء تصويره في شوارع حي الأربعين هناك، إذ تعرض له أحد الأهالي وحرض عليه الناس لينتهي به الحال في إحدى الجهات الأمنية بغرض التحقيق حول سبب وجوده، ثم تم ترحيله نهائيا من المدينة. في ذلك الوقت تناقلت المواقع الاخبارية الخبر بعنوان : "اعتقال أيسلندي يحرض أهالي السويس لحرق مديرية الأمن. ورغم أنه لم يتعرض للاعتقال مرة أخرى بعد تلك الحادثة، إلا أنه يؤكد على أنه لاحظ حالة العداء المتزايدة تجاه التصوير والأجانب في الشارع، ويشرح وجهة نظره قائلا: "أصبحت معادلة الخوف هي الكاميرا والأجنبي .. والاثنان يستدعيان حس المؤامرة لدى المواطنين".
في الأسابيع الماضية تعرض عدد من المصورين والمخرجين للتضييق عليهم أثناء التصوير في الشارع، وذلك في أعقاب الصخب المصاحب لبث إعلانات "الجاسوسية" على القنوات المصرية، كان آخرهم المخرج أحمد خالد أثناء مصاحبته لزميلة نمساوية ومصورة ألمانية لتصوير فيلم عن نماذج نسائية من الثورة المصرية، وحسبما يذكر في شهادته التي دونها على صفحته في شبكة فيسبوك الاجتماعية، فقد فوجيء بعبارات عدائية من سكان هذه المنطقة في دار السلام، وكلمات متناثرة مثل : "جواسيس.. اسرائيليين .. قطر.. .. أمريكان.. سيبونا في حالنا..انتوا عايزين مننا ايه.. ؟!".
هذه المواقف أرجعها عدد من العاملين في مجالي الفن والاعلام إلى نبرة التخويف من الأجانب التي بدأت تنعكس على علاقات الشارع، لكن الأمر ليس على هذه الدرجة من السوء مع أجانب آخرين مقيمين في مصر، أحدهم هو الإيطالي "إنريكو دي أنجيليس" (33 سنة) الذي يعمل باحثا في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية – سيداج- بالقاهرة، يقول: "أسمع تعليقات في مترو الأنفاق بعد سلسلة إعلانات الجاسوسية، لكني أتعامل معها على أنها نوع من المزاح". يبتعد إنريكو عن أي مساحة قد تجلب له المشاكل، و يوضح قائلا: "هناك شيء لم يدركه المصريون جيدا، وهو الانبهار الذي أصاب البعض في الغرب تجاه ثورة 25 يناير وميدان التحرير، وهناك من يأتون خصيصا لفهم ما يحدث". بعض هؤلاء اختار أن يكتب كمراسل حر لصحف في الخارج لمجرد أن يتواجد في مصر ويقترب من الأحداث، هؤلاء يشبههم انريكو بأنهم "سائحو الثورة"، لكن بعضهم يقع في مشاكل كالتي وقع فيها أحد أصدقاء أنريكو، حين سلمه المتظاهرون إلى الشرطة العسكرية أثناء أحداث محمد محمود، وتم ترحيله إلى إيطاليا مباشرة. يتحدث إنريكو بلكنة شامية بحكم إقامته السابقة في لبنان وسوريا قبل مجيئه إلى مصر، فهل يجد البعض في مظهره و لكنته الشامية صورة مثالية للجاسوس التقليدي كما تجسده الدراما المصرية ؟ يبتسم قائلا: "أقدر حالة الشك التي قد تصيب البعض في البداية لكني أتعامل في الغالب مع شريحة متنورة تتفهم عملي البحثي، وليسوا بهذه السذاجة التي قد يكون عليها البسطاء".
على المقهى يجلس إنريكو مع أصدقائه المصريين والايطاليين ساخرين من إعلانات الجاسوسية، من وجهة نظره فإن الأوضاع أفضل بمراحل واسعة عن الحال في سوريا ، و يشرح ذلك : "العداء للأجانب له صلة بموقف الدولة من الأجانب، هنا في مصر الوضع مختلف، لأنه ما زال لم يتكون بعد خطاب سائد ضد الأجانب، ولم يترجم إلى سياسات عنيفة.. وهنا أريد أن أوضح أن الشريحة المرتبطة بالثورة سواء في مصر أو سوريا أو تونس هي الأكثر انفتاحا على الآخر، والأكثر ثقة في أنفسهم، ولا تشغلهم نظرية المؤامرة".

الشباب الأكثر انفتاحا
لا تتوافر دراسات عن تنامي العداء تجاه الأجانب في مصر ، خاصة في الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة، كما أن أعداد السائحين الأجانب قد لا تعبر عن حقيقة الموقف مع حالة الانفلات الأمني وغياب الاستقرار السياسي التي عاشتها البلاد في أعقاب الثورة، لكن الانتقادات لم تتوقف طوال الفترة الماضية عن أن إشاعة أجواء التخويف من الأجانب قد تؤذي السياحة، وتشير الأرقام إلى أن إيرادات السياحة في العام 2010 كانت قد وصلت إلى حوالي 13 مليار دولار بينما انخفضت إلى 9 مليارات في العام الماضي 2011.
رغم تلك الأجواء إلا أن فنانا سويسريا مثل جون لوك مارشينا الذي يعتمد عمله على التصوير، قد لاحظ اختلافا بين زيارته إلى مصر في العام 2007 و الفترة الحالية، إذ كانت مشكلاته تقتصر في الماضي على التعامل مع رجال الأمن، أما بعد الثورة، فقد أصبح التضييق يحدث من ناحية الأهالي. "ربما أصبح هذا الهاجس الأمني لدى المواطنين بسبب ضعف الحالة الأمنية بعد الثورة، لكن لا أستطيع أن أقول إن هناك حالة عداء تجاه الأجانب في مصر". يقول مارشينا بعد تعرضه للتضييق مؤخرا من مواطنين اعترضوا على تصويره لعمارة ذات طراز معماري متميز: "رأيت إعلانات مكافحة الجاسوسية على الانترنت، والحقيقة لم أفهم الغرض منها !!". لا يجيد جون لوك مارشينا العربية، و كثيرا ما يضطر إلى التصوير في الشارع، ويتفق مع انريكو الباحث الايطالي على أن شريحة الشباب هي الأكثر انفتاحا . ثم يختم قائلا: "أنوي كتابة خطاب إلى رئيس مصر الجديد، أخبره فيه أن لديه كنزا من الشباب، وعليه ألا يعيدهم إلى الاحباط مرة أخرى".

الدولة الأمنية : العملاء من أمامكم ، ونحن من خلفكم

"ما رأيناه في الفترة الماضية ليس أحد مظاهر القبضة الأمنية للدولة، بل هو أحد مكوناتها التي ظهرت في أفلام دعائية تحذر من الجواسيس، وتخوين النشطاء على مدار الفترة الماضية "، هذا ما يراه الدكتور شريف يونس- المدرس بقسم التاريخ في جامعة حلوان- و يستدعي في حديثه بعضا من مجال اهتمامه البحثي في تاريخ الحقبة الناصرية بعد ثورة 23 يوليو، إذ يرى مشاهد متشابهة بين الحقبتين، والقاسم المشترك هو محاولة فرض القبضة الأمنية للنظام. "لو عارضت الدولة آنذاك، فلن تكون متهما بمخالفة النظام وحسب، بل ستتهم بأن هناك عدو خارجي يدعمك". تلك كانت أدوات السيطرة في تلك الحقبة، لكن بعض التفاصيل المتعلقة بالأجانب لها خلفيات سابقة على تولى عبدالناصر الحكم، إذ كان هناك وضع مميز للأجانب قبل الثورة في مصر، وهو ما أشار إليه جمال عبدالناصر نفسه لتوضيح سياساته في تلك الفترة، كأن نجده في سنة 1961 – عام صدور قوانين يوليو الاشتراكية- يؤكد في اجتماع مجلس الوزراء على أن تجارة الأرز كانت في أيدي الأجانب واليهود، وأن علاقتهم الخارجية أعاقت التصدير الحكومي، ما يبرر ما اتخذه من إجراءات . قد تبدو المقارنة بعيدة بين عالم الخمسينات والستينات وعالم ما بعد ثورة 25 يناير، إلا أن هذه الفجوة الزمنية تنكسر بعد قراءة عناوين المقالات في الصحف الغربية التي تحذر رعاياها من التوجه إلى مصر بعد بث سلسلة إعلانات "الجاسوسية" على بعض التلفزيونات المصرية، منذرة بموجة عداء تجاه الأجانب حسبما نقلت هذه الصحف، هذا الموقف يعيدنا إلى موقف شبيه في الخمسينيات بعد حرب 56 نتيجة سياسات الدولة تجاه الأجانب في مصر. ويعرض الكاتب الراحل مصطفى أمين في مقال بتاريخ 9 فبراير 1957 ملمحا عن هذه الفترة أثناء دفاعه عن إجراءات الدولة آنذاك قائلا : "إن الذي يقرأ صحف العالم في هذه الأيام يظن أن مصر أغلقت أبوابها في وجوه الأجانب" ، ورغم عدالة القضية التي يعرضها مصطفى أمين في عودة ميزان القوى للمواطنين المصريين بعد أن مالت الكفة لصالح الأجانب قبل الثورة، إلا أن المفارقة أن الكاتب مصطفى أمين نفسه قد تعرض للاعتقال والحبس مدة تسع سنوات والتهمة هي : التخابر لصالح المخابرات الأمريكية . يعلق الدكتور شريف يونس : "استخدام العدو الوهمي الخارجي لتحريك آلة القمع الداخلية وتجميد الحراك السياسي، هو في النهاية مناورة سياسية ، لنتذكر سويا قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الأمريكية، وسفر المتهمين بعد ذلك، هل تبعها قطع علاقات أو عداء مع الولايات المتحدة الأمريكية ؟ العلاقة ما زالت مستمرة، وستستمر، لكن الاعلام ركز عليها ثم انطفأت بعد التخويف المؤقت من الأجانب والجمعيات الأهلية".

"لن يستطيع الحاكم تضليل المصريين في المستقبل"
3 أسئلة للدكتور طريف شوقي
أستاذ علم النفس وعميد كلية الآداب- جامعة بني سويف

- هل ترى في إلحاح الدولة على تقديم أعداء داخليين وخارجيين أنه أحد مظاهر حالة " التعبئة المعنوية" ؟

ما أراه بصورة أكبر هو "تهيئة مسرح العمليات للمرحلة القادمة"، لكن ذلك يتم بصورة لم تختلف عن مظاهر الدعاية السياسية التي رأيناها على مدار التاريخ، حتى أنها تبدو طرقا قديمة وبالية أحيانا.. ولا أعتبر هذا التوجه من السلطة "حالة تعبئة داخلية" لأن الواقع يقول إننا لسنا في حالة حرب، لكن السلطة التي لا تستطيع تحقيق الأمن، تلجأ إلى التخويف كي تبرر وجودها وسطوتها، إما باختلاق مخاطر وهمية على الحدود، أو بالتخويف من الأجانب ، لكن هذا التكرار، وثبوت عدم مصداقيته، يفقد السلطة نفسها مصداقيتها.

- كيف ترى أداء المصريين في التعامل مع هذا الموقف ؟

أجد أن هذه المحنة التي مرت بها مصر بعد عام ونصف من الثورة هي منحة من الله كشفت الكثير أمام المصريين، وأعطتهم تدريبات ذهنية مجانية على كيفية نقد ما يتعرضون له من مواقف، وتحليل ما يصل إليهم من معلومات، وربطها ببعضها البعض، هذا لم يكن يحدث من قبل، كنا في حالة استسلام وكسل ذهني، والسيء في الأمر أن السلطة لا تظهر أي ابداع في التعامل مع الجماهير بينما نجد هذه الجماهير أكثر ابداعا وذكاء في التعامل مع المحن وحملات التضليل .

- ما المتوقع من الاستمرار في لعبة تخويف الجماهير وتحفيزهم ضد أعداء غير حقيقيين ؟

لنسأل أنفسنا في البداية .. متى تقدم الغرب ؟ الإجابة : بعد الحرب العالمية الثانية وخسائرها، ما حدث آنذاك هو صراعات قادتها أنظمة دكتاتورية، فوقعت حروب اعتمدت على الدعاية السياسية، و كان التغيير الحقيقي حين اهتمت هذه الدول بتحليل ودراسة ما تعرضوا له على أيدي تلك الحكومات، وبدأوا في الاستفادة من تلك الأحداث في النهوض بمجتمعاتهم ، لذا .. بعد هذه المرحلة التي نعيشها الآن ستأتي مرحلة استخلاص الدروس، و استثمار هذه التجربة الذهنية في بناء المستقبل بشكل أكثر إحكاما.

تاريخ السيطرة على الجماهير

ما أن ظهرت سلسلة اعلانات الجاسوسية الأخيرة حتى تبادل بعض مستخدمي الانترنت مواد فيلمية كانت تذاع في أمريكا في نهاية الأربعينات للتخويف من خطر الشيوعية، هذه المواد المتاحة الآن على موقع يوتيوب، كانت إحدى وسائل النظام الأمريكي في مواجهة الاتحاد السوفيتي، إلا أن تلك الوسائل في الدعاية السياسية قد بدأت مع بدء النظم السياسية في التاريخ، إذ انتشرت في المعابد والقصور الملكية في الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة المصرية جداريات تنقل الرهبة إلى نفوس الشعب، و صورت سطوة الملك على أعدائه الذين يهددون خيرات البلاد، كما صورت ملاحم الحكام وكيف ساندتهم الآلهة ضد من يهددون الأمن الخارجي والداخلي.
ومع ازدياد النضج السياسي الذي برز في الدولة الإغريقية، رصد بعض الفلاسفة مثل أرسطو دور الدعاية السياسية في قيادة الجماهير، حين كانت الخطابة – التي حملت عنوان أحد أعماله- هي الوسيلة الأقوى في توجيه المواطنين والوصول إلى المناصب العليا في البلاد، أما في عهد الملك فيليب المقدوني، والد الاسكندر الأكبر فيسجل المؤرخون أنه أول من استخدم الأساليب المخابراتية في الحروب من نشر الإشاعات وإضعاف الروح المعنوية لأعدائه.
أما في فترة العصور الوسطى والإسلامية فقد كانت الحروب الصليبية إحدى أكبر الحروب التي قامت بسبب الدعاية السياسية، ونجحت البابوية آنذاك في نشر دعاية مفادها أن هناك اضطهاد من المسلمين للمسيحيين في بيت المقدس، كما استخدم البابا أوربان الثاني تعبير " الأرض التي تفيض باللبن والعسل " من الكتاب المقدس لتحفيز الجماهير الفقيرة والأمراء المغامرين والملوك على الحرب، واقتناص غنائم الشرق.
و في ذلك العصر كان التمثيل بجثث الأعداء إحدى وسائل القبضة الأمنية في البلاد الإسلامية و بث الخوف في نفوس الأهالي، وهو ما كانت تشهده القاهرة بشكل معتاد، وفي تلك الفترة تجاوز الحكام الأعراف الإسلامية في العقوبات البدنية بشكل مختلف، مثل المعاقبة بجدع الأنوف وقطع الآذان، حتى يكون أصحابها وسيلة دعاية مجانية لسطوة الدولة المملوكية.
في العصور الحديثة كان ظهور الطباعة في أوروبا نقلة هامة في الدعاية السياسية، لذا استخدمها البروتستانت المعارضين للكنيسة الكاثوليكية، وطبعوا المنشورات والكتيبات التي تروج للمذهب الجديد، إلا أنه سرعان ما فطنت النظم السياسية وقتها ومنها المملكة البريطانية التي أصدرت قرارا عام 1529 بأن تكون الطباعة بتراخيص.
وتعد فترة الحرب العالمية الثانية أحد مظاهر تجلي الدعاية السياسية بعد ظهور أدوات جديدة على رأسها التصوير السينمائي، وقد انتجت تلك الفترة مراجع هامة قامت على دراسة الدعاية السياسية، وخاصة النموذج النازي، إذ وعى هتلر الدرس الذي تلقاه بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، فأنشأ وزارة الدعاية التي كان على رأس أولوياتها، السيطرة على الصحفيين الألمان، وخلقت الدعاية النازية آنذاك أعداء "للأمة الألمانية" على رأسهم اليهود، وتم ترويج صور نمطية عن أعداء الأمة المختلقين . ولم تنفرد ألمانيا بهذا النوع من الدعاية، إذ كانت دولا مثل بريطانيا وأمريكا تستخدم السينما واللافتات العامة للغرض الدعائي نفسه محذرة من الجواسيس الألمان، إحدى هذه اللافتات الشهيرة كانت في عام 1940 في بريطانيا تنصح الجماهير وقت الحرب: "احتفظ بسرك تحت قبعتك"، في إشارة إلى حالة الخوف السائدة من الجواسيس في تلك الفترة.
و في مايو 1968 بفرنسا ، بدأت حركة تحررية في أوساط الطلبة امتدت إلى شرائح أخرى من المجتمع ضد النظام القديم، وضمت تلك الحركة طلابا وعمالا كان بعضهم من الأجانب، ومع ازدياد المد الثوري بدأت موجات محافظة تعمل في اتجاه مضاد، إذ تم التشنيع على أحد قادة حركة 68 وهو "دانييل كوهين بنديت " لكونه ذو أصل ألماني يهودي وتم طرده من البلاد، فاعترض بشدة زملاؤه الثوريون، وازدادت الاتهامات من المحافظين بأن تلك الانتفاضة هي دعوي تخريب وبدأ الضغط من بعض أصحاب الأعمال على العمال الأجانب لديهم . إلا أن مبادئ تلك الحركة انتشرت بشكل كبير وحققت جزء من الإصلاحات على يد قوى سياسية فيما بعد.