Sunday, January 31, 2010

معرض الكتاب يغازل هوس الشراء

عبد الرحمن مصطفى
تصوير: أحمد عبد اللطيف
حب اقتناء الكتب أصبح يمثل للبعض مشكلة حقيقية خصوصا فى موسم معرض الكتاب، الدكتورة عبلة عبد السميع مدرس اللغة التشيكية بكلية الألسن فى جامعة عين شمس واحدة من هؤلاء، فعلى الرغم من حرصها على اقتناء أحدث الإصدارات على مدار العام لكنها تعجز عن الامتناع عن الشراء فى فترة المعرض، وهو ما يسبب لها مشكلة سنوية: «اكتشفت أن هناك تراكما لدى من الكتب التى لم أطلع عليها من حصيلة شراء السنوات الماضية، وهو أمر محزن جدا، خصوصا وسط الانشغال بالقراءات الأكاديمية والحياة العملية».
مشكلة الدكتورة عبلة عبد السميع تجاوزت حد العجز عن الاطلاع على جميع ما لديها إلى أزمة فى تنسيق الكتب نفسها، تقول: «كل منا يصنع مكتبته الخاصة فى حدود المتاح لديه فى منزله، فهناك من معارفى من خصص شقة كاملة لكتبه وتحولت شقته إلى مكتبة حقيقية، وعلى الرغم من غرابة الفكرة لكنها حقيقية.. أما أنا فاضطررت إلى تخزين بعض كتبي من مشتريات الأعوام السابقة فى كراتين، وهو ما لا يرضى من يقدر قيمة الكتاب".
موسم شراء الكتب وما يصاحبه من إنفاق قد يسبب قلقا لمحبى اقتناء الكتب، فقد أصبح مشهدا مألوفا حين يحمل زوار معرض القاهرة الدولى للكتاب حقائبهم البلاستيكية المتخمة بالكتب أثناء حركتهم فى الزحام. والبحث بين أكثر من 16 سرايا عرض للكتب تنتشر على مساحة 70.000 متر مربع يتحول إلى رحلة شراء طويلة الأمد، خصوصا مع وجود كميات متوافرة من سلاسل حكومية منخفضة التكلفة مثل مكتبة الأسرة وغيرها.
المفارقة التى تعيشها الدكتور عبلة أثناء تلك الفترة هى أنه منذ دخولها من بوابات المعرض فهى تعلم جيدا أنها لن تجد كتبا كثيرة فى مجال تخصصها فى اللغة التشيكية، فمثل هذه الكتب تطلبها من المسافرين إلى التشيك أو تطلع على ما هو متاح منها على الإنترنت وهو ما يعكر مزاجها المحب لاقتناء الكتب.
حب الكتب ( خاصة النادر منها) والاطلاع عليها اصطلح على تسميته بـ«بيبليوفيلى
bibliophilie»ـ
وهو مختلف عن هوس شراء الكتب واقتنائها «بيبليومانيا
bibliomania»
الذى يعتبر أزمة تدفع صاحبها إلى شراء الكتب قسرا حتى إن لم يكن في حاجة لقراءتها، بل قد يصل به الحال إلى شراء نسخ وطبعات مختلفة من نفس الكتاب.
لا تخفى الدكتور عبلة عبد السميع قلقها هى وأصدقائها من فكرة سيطرة هوس الشراء عليهم، لذا توصلوا إلى فكرة مبتكرة اتفقوا عليها فيما يشبه التقليد السنوى المصاحب لمعرض الكتاب، وهي إعداد قوائم بأهم الكتب التى يرغب كل منهم شراءها أثناء المعرض وهو ما يجعلهم يتشاورون حول تلك الترشيحات، أما بعد رحلة التسوق من المعرض فيعودون لنشر قائمة أخرى تفيدهم في إعلام الآخرين بأسباب شراء كتبهم وملاحظاتهم على دور النشر.
وتتيح الآن بعض المواقع على الإنترنت إعداد مثل هذه القوائم فى إطار يشبه الشبكات الاجتماعية منها شبكة goodreads.com
التى تتيح لكل مشترك تصنيف كتبه على الموقع حسبما يرى، بما فى ذلك ما يرغب فى شراؤه وما قرأه بالفعل، ويمتاز الموقع بتقييم الكتب من الأعضاء والاطلاع على قوائم الأصدقاء فى الموقع.

Wednesday, January 27, 2010

المعرفة ليست دائما في المكتبات

عبد الرحمن مصطفى
تصوير: هبة خليفة
لم تأت هبة محمد إلى مكتبة معهد البحوث الأفريقية فى زيارة موسمية بسبب الامتحانات، بل جاءت تبحث عن مراجع قد لا تتوافر فى المكتبات العامة أو فى مكتبة كلية الآداب بجامعة القاهرة. تقول: «حفظت ألاعيب الطلبة جيدا حين يخفون الكتب فى غير أماكنها على الأرفف، أو حين يحجزون الكتاب الواحد لتصوير أجزاء متفرقة منه بينهم حتى تكون لديهم نسخة كاملة».
لا تخفى هبة أنها كانت تخضع لنفس قواعد اللعبة حين كانت طالبة فى كلية الآداب بقسم التاريخ وكذلك أثناء الدراسات التمهيدية بنفس القسم، لكن مجيئها إلى مكتبة معهد البحوث الأفريقية كان محاولة للبحث عن مراجع مختلفة من أجل التحضير لخطة رسالة الماجستير. هى ليس لها حق الاطلاع إلا فى يوم واحد حسب اللوائح الداخلية للمكتبة لمن هم ليسوا طلبة بالمعهد. اعتادت أثناء وجودها داخل المكتبات على صخب الطلاب فى زياراتهم الموسمية واعتادت على عبارات من أمناء المكتبة من نوعية «مفيش تصوير دلوقت»، «الصوت يا شباب.. مينفعش كده»، كل هذه الضغوط من المتوقع أن تزيد فى حالة ما سجلت رسالة الماجستير حيث ستكون مطالبة بالبحث عن مراجع أكثر اختلافا والتعامل مع مراجع أجنبية أكثر ندرة، إلى جانب عملها الأصلى خارج الجامعة، حسب قولها: «سيكون الانترنت هو الحل فى تلك المرحلة».
بعض زملائها لم يجدوا سبيلا إلى الاطلاع على أرشيفات دار الوثائق أو التعامل المباشر معها لأنهم أيضا لا يستطيعون الحصول على التصاريح اللازمة للاطلاع على الأرشيفات وهو ما يتاح لباحثى الماجستير وما بعدها، لذا حاولوا الاستعانة بموقع الدار على الانترنت لكن التعامل المباشر يختلف تماما.
هناك طرق أخرى يسلكها البعض عن طريق المراكز الثقافية فى مصر، أحد الباحثين أفصح عن خطته لاستغلال مكتبة المركز الثقافى الألمانى فى طلب المراجع التى سيحتاجها من ألمانيا! لكن فى الفترة الأخيرة أثيرت ضجة حول مدى فاعلية هذه المراكز الثقافية ومكتباتها فى خدمة الباحثين بعد أن أغلق بعضها مكتبته مثلما حدث مع مكتبة المجلس الثقافى البريطانى الصيف الماضى، وثار جدل بعد إعلان الإدارة أن من أسباب إغلاقها أن المصريين غير مهتمين بالكتب والقراءة وأن المكتبة لا تفيد إلا شريحة ضيقة. مثل هذه التصريحات أخفت جوانب أخرى حول عرقلة استخدام المكتبة منها الاشتراك السنوى الذى كان يضعه المجلس لارتياد المكتبة وهو ما لم يشجع كثيرا من الطلبة على ارتيادها، هذا الرأى تدعمه هاجر هشام المعيدة بقسم اللغة الانجليزية فى كلية الألسن ــ جامعة عين شمس، تقول: «مكتبة المجلس كانت مفيدة فى الكتب الكلاسيكية التقليدية لكنها لم تكن أساسية، كنت أستخدم طوال سنوات الدراسة مكتبة الجامعة والكلية لأنها الأكثر تخصصا، أعتقد أنه لم يخسر الطلبة كثيرا بإغلاق هذه المكتبة».

دراما الماجستير
هذه اللهجة الواثقة التى تتحدث بها هاجر تخفى وراءها مشكلة أعمق بسبب اختيارها التخصص فى مجال الأدب وتحديدا فى موضوع عن المسرح الأمريكى المعاصر فوقعت فى مأزق العجز عن الحصول أو حتى الاطلاع على أعمال هؤلاء المسرحيين لعدم وجودها فى مصر، فهى لا تبحث عن مراجع أو أبحاث أكاديمية تقليدية يمكن توافرها على الانترنت، وحيث إن جامعة عين شمس التى تتبعها كلية الألسن تشترط على طلابها إنجاز مهمة تسجيل الماجستير فى خلال ثلاث سنوات منذ بدء الدراسات العليا فلم يعد أمام هاجر سوى سنة واحدة لتحضير موضوع رسالة الماجستير بعد سنتين إجباريتين قضتهما فى الدراسة قبلها، وهى توضح: «أنا فى مأزق حقيقى.. لم يعد أمامى إلا أشهر قليلة حتى أكون قد قرأت ما يكفى لكتابة خطة بحث درجة الماجستير».
فى مثل هذه الحالة هناك طرق أخرى لإنقاذ الموقف، تشرحها هاجر: «ذهبت إلى مكتبة ديوان لطلب بعض هذه الأعمال المسرحية عن طريق طلب شراء تقليدى من خارج مصر، وبعد ثلاثة أشهر لم تصلنى الكتب، وحاولت عبر الجامعة الأمريكية وتعثر الأمر، والآن لا يسعفنى الوقت».
بعض زملاء هاجر يلجأ إلى طريقة ذكية للاطلاع على أحدث الإصدارات.. تتلخص الخطة فى اصطياد منحة قصيرة المدة إلى الخارج تتيح لهم السفر والاطلاع على أحدث ما أصدره العالم، لكنها بحكم عملها كمعيدة فعليها أولا تسجيل موضوع بحث الماجستير قبل قبول أى منحة.. بعض أصدقائها اليوم يقترحون عليها البحث فى موضوع جديد (أسهل) له مراجع متاحة فى المكتبات، فترد على ذلك: «اعتدت منذ السنة الثانية بالكلية على أن أتجه إلى سور الأزبكية بحثا عن الكتب النادرة أو القيمة لأكون مكتبتى الخاصة فى فترة مبكرة، فالمكتبات لا تفيد دائما، مثلما لم تسعفنى اليوم».
التعامل مع سور الأزبكية قد يكون حلا لكثير من الباحثين خاصة مع ما يصل إلى التجار من مقتنيات خاصة بعضها نادر، لكن المفارقة أن المكتبات التقليدية أيضا تصل مقتنياتها إلى سور الأزبكية، فوجود أختام مكتبات مثل دار الكتب أو جامعة القاهرة على الكتب المبيعة فى سور الأزبكية بفرعيه فى السيدة زينب والأزبكية شاهد على تنوع المقتنيات هناك، فلدى المكتبات إجراء روتينى فى التخلص من التالف لديها، تتحدث إحدى العاملات فى فرع من فروع مكتبات دار الكتب المصرية بلهجة فخر عن أنها منعت تسجيل بعض الكتب تحت تصنيف تالف وأعادت إصلاحها ووضعها على الأرفف، وأكد لها بعض مرتادى المكتبة من الطلبة أن بعض الكتب الموجودة فى هذا الفرع فى مجالى التاريخ الحديث والسياسة ليست موجودة فى مكتبات كبرى مثل مكتبة مبارك، بل إن بعضهم اكتشف ترجمة عربية قديمة لكتاب كان يعمل على ترجمة أجزاء منه يستعين بها فى بحثه. بكل بساطة تقول: «اقترحت أن تبقى هذه الكتب وألا نتخلص منها لأن حالتها لم تكن سيئة لدرجة التخلص منها». وتشير إلى أن بعض هذه الكتب كانت من منتجات حركة الترجمة والنشر القوية التى كانت موجودة فى عقد الستينيات فى مصر.
هذا النموذج من أمناء المكتبات ليس هو السائد دائما، الدكتورة حسناء محجوب رئيس قسم المكتبات والمعلومات بجامعة المنوفية ترى أن الأمر دائما معلق برقبة إخصائى المعلومات فى مراكز المعلومات أو المكتبات، وتقول: «استطيع أن أقول إن 80% من نجاح أى مكتبة أو مركز معلومات يعتمد على العنصر البشرى لأن كثيرا من المكتبات الحديثة مبانيها فخمة لكن العناصر البشرية ليست على نفس المستوى، والمسألة ليست مسألة إمكانات شراء كتب فهناك نموذج دار الكتب التى يتحتم على الإصدارات الجديدة التى تملك رقم إيداع أن ترسل نسخا إليها دون أن تتحمل ميزانية المكتبة أى شىء، وهنا تبقى أهمية العنصر البشرى».

مجتمع الباحثين
فى أثناء رحلة البحث عن المعلومة يتكون مجتمع صغير من أصحاب الهم الواحد، وكلما ضاق التخصص والاهتمام صغر هذا المجتمع، هذه الحالة ربما تستقطبها بعض المراكز البحثية ومكتباتها، ويعد مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (سيداج) أحد هذه التجمعات حسبما تصف إيمان فرج الباحثة فى المركز التى بدأ تعرفها على المكان منذ أن كانت طالبة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى نهاية السبعينيات حتى انتقلت كباحثة داخل المركز، وقبل عدة أسابيع على طريقة ما حدث فى مكتبة المجلس الثقافة البريطانى صدر قرار داخلى بإغلاق المكتبة وقسم التوثيق، تعلق إيمان فرج: «أهمية هذه المكتبة أنها كونت مجتمعا خاصا من الباحثين الأجانب والمصريين وهو ما كون لديهم ارتباطا بالمكان، خاصة مع ما كان يوفره من اطلاع على الدوريات الحديثة الفرنسية التى انفرد بها فى مصر».
توافر الدوريات الحديثة لم يجذب فقط الباحثين أو الصحفيين إلى المكتبة بل كانت خدمة الأرشيف الصحفى المصنف حسب أهم الموضوعات والقضايا من أهم الخدمات هناك، وهو ما ساعد الكثيرين فى هذا المجال. وهى خدمة مجانية ستتوقف مع إغلاق المكتبة.
تبدو الدكتورة حسناء محجوب ــ أستاذة المكتبات والمعلومات ــ أكثر تفاؤلا فى تلقيها قرار إغلاق هذه النوعية من المكتبات المرتبطة بمراكز أجنبية، وهى تقول: «حاليا الانترنت أسعف الكثيرين وخطفهم من هذه المراكز، فالكتب أصبح يتم تحميلها على الانترنت، بل حتى خدمة الأرشيف الصحافى أصبحت توفرها بعض المشروعات مدفوعة الأجر».
تتحدث الدكتورة حسناء محجوب بحماس عن وجود خدمات فى الجامعات نفسها على الطلبة الاستفادة منها مثل بوابة اتحاد مكتبات الجامعات المصرية التى تقدم مقتنيات مكتبات الجامعات المصرية من رسائل الماجستير والدكتوراه وأبحاث، إلى جانب الدوريات والأبحاث فى الجامعات الغربية أيضا.
لكن فى حالة هاجر المعيدة بكلية الألسن فالمشكلة أن هدفها الحصول على أعمال مسرحية كاملة قد لا تتوافر داخل قواعد البيانات البحثية.
خلود صابر ــ المعيدة بقسم علم النفس بجامعة القاهرة ــ بدت متصالحة مع هذا السقف المنخفض الذى تفرضه قواعد المناخ التعليمى حسب تعبيرها، وتقول: «لى أصدقاء فى الجامعة الأمريكية يساعدوننى على الوصول إلى أحدث المراجع التى تتوافر ولا تصل إلينا». مشكلة مكتبة الجامعة الأمريكية التى يؤمها عدد من الباحثين سعيا وراء الإصدارات الأحدث فى الولايات المتحدة وغيرها من الجامعات الغربية أنه على الطالب أو الباحث ألا يطمح فى ارتيادها إلا فى يوم واحد فى الأسبوع لمن يعد رسالة الماجستير أو الدكتوراه، ولم يعد مقرها متاحا فى منطقة وسط البلد بالقاهرة كما كانت قديما بل انتقلت إلى التجمع الخامس، وكلها أسباب تحد من معرفة أحدث الإصدارات الغربية.
تضيف خلود: «المشكلة ليست فى الإمكانات فقط، بل أحيانا فى النظام الإدارى أو فى العنصر البشرى حين تكون فكرة أن ترتقى بمستوى معرفتك غير مطروحة أساسا فى الجامعة، وتجد موظفين يعملون على التضييق عليك أحيانا».
بعض التفاصيل ما زالت تعوق انجازات كبيرة مثل تطوير المكتبة المركزية العملاقة فى جامعة القاهرة، مثل صعوبة البحث فى قواعد البيانات والوصول إلى الكتاب المستهدف، لكن الأمر يتخطى أحيانا إلى تفاصيل تذكرها خلود: «حسب عملى كمعيدة فى القسم فمطلوب منا شراء كتب بمبلغ محدد سنويا من معرض الكتاب، وهذا ما تم، لكنى بعد أكثر من عام لم أجد هذه الكتب على أرفف المكتبة حين طلبتها نتيجة مماطلات إدارية، والمفاجأة أن بعض الأقسام لا تهتم حتى بفكرة الحصول على هذا المقابل السنوى لشراء الكتب».
هذه الحالة العامة بتفاصيلها هى ما يبعد البعض عن طموح ملاحقة الأحدث فى مجال التخصص وتفرض القبول بالأمر الواقع فى بعض الحالات.. لم يطرح أحد حل، بل تمحورت المشكلة فى العنصر البشرى، وفى الوقت الذى ظهرت فيه حركات طلابية تدافع عن حقوق الطلاب فى مواجهة الجامعة، أغفل الطلاب حقهم فى الوصول إلى أجود المصادر العلمية وإتاحة المعرفة، وهو ما لم يتبناه الطلاب حتى الآن بشكل واضح.
PDF

Sunday, January 24, 2010

مبادرات ضد الطائفية

عبدالرحمن مصطفى
تصوير ــ جيهان نصر

عاش المهندس رامى سيدهم حالة من الصدمة ما زالت ممتدة إلى الآن عقب قتل 7 مواطنين أمام كنيسة فى مدينة نجع حمادى وما تبع هذه الجريمة من ملابسات غريبة، تجعله يفكر فى شكل المستقبل، «فى الماضى كنا نسمع عن العلاقات المتداخلة والمتشابكة بين المسلمين والمسيحيين، اليوم قلت هذه العلاقات، فماذا عن الغد؟».
قلقه الكبير دفعه إلى أن يسترجع تجربة عاشها مع أصدقائه فى عام 2005، وقتها كان هناك حادث طائفى آخر فى حى محرم بك بمدينة الإسكندرية، تجمهر المئات حول كنيسة مارجرجس، وتبع ذلك شغب وعبارات متعصبة، ثم حوادث قتل وإصابات.
تلك الحوادث دفعت مجموعة من الشباب وقتها إلى إطلاق مبادرة تحت عنوان «مصارحة ومصالحة»، كان الهدف واضحا منذ البداية، وهو مناقشة الصور السيئة، التى يروجها كل طرف عن الآخر، والتى تستخدم فى التحريض، وكان يحرك هذه المجموعة دوافع أخرى يوضحها رامى: «حققنا نجاحا مهما داخل أنفسنا، كنا نتحدث فى أى شىء وكل شىء بحرية تامة، وهو ما انتقل إلى مدوناتنا أحيانا، وذلك فى الوقت الذى كان فيه الإنترنت يعج بالكتابات المتعصبة والحروب بين المذاهب، كنا نحن نحاول أن نكون النموذج المختلف ونقطة ضوء وسط هذا الظلام».
حادث كنيسة محرم بك كان ينشطه تحريضات على الإنترنت بعد نشر كليب مسرحية اعتبرها البعض مسيئة للإسلام.
خلال السنوات الماضية كانت المبادرة محل اهتمام إعلامى فى بعض الأوقات، إلا أن رامى يرى أن هذا الظهور الإعلامى بين الحين والآخر لم يغير طبيعة المجموعة الصغيرة، التى لم تتسع لأعضاء جدد بشكل جيد لنشر أفكارها إلى آخرين. بقدر ما كانت نموذجا أمام الآخرين، فأعضاء هذه المجموعة لا يزيد على 12 فردا، وهو ما يراه عيبا اليوم.

مناقشات شهرية
بعض مرتادى الإنترنت كان لديهم فضول لمعرفة ماذا يحدث فى مثل هذه الاجتماعات؟ فى أحد الأماكن العامة كانت لقاءات أعضاء المبادرة بصورة شهرية، وفى كل جلسة هناك برنامج محدد وقضية للمناقشة تخص العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، مرة نقد فيلم سينمائى اهتم بتناول هذه العلاقة، أو مناقشة كتاب يسىء للعلاقة بين الطرفين، إلى جانب طقس أخير أقرب للطقس الروحى فى قراءة نصوص دينية حول موضوع واحد من القرآن والكتاب المقدس.
البعض انضم إلى المجموعة المؤسسة عن طريق المدونات، ومنهم الدكتورة سوسن على التى لم تكن فى يوم من الأيام ناشطة أو على دراية واسعة بعمل المبادرات، وهو ما جعلها ترى الهدف منها بطريقة مختلفة، وتقول: «المكسب الأكبر بالنسبة لى كان النقاش حول أمور لم نتناقش حولها من قبل، أصبحت أعرف ما يقال سرا بين المسيحيين عن المسلمين والعكس، وكيف يمكن أن يسىء المسلم لزميله المسيحى أو العكس دون أن يقصد عن طريق اللغة المستخدمة المسيئة التى اعتاد عليها وهو ما كان بمثابة صدمة لى، أما أكبر المكاسب فكان فى نقل هذه التجربة إلى آخرين فى العائلة والعمل والمجتمع، أن أكون صوت صديقى المسيحى الغائب».
يرى رامى أن أفضل طريقة لنشر هذا النوع من المبادرات فى فكرة طرحها أعضاء المبادرة حول ضم أعضاء جدد وتعريفهم بكيفية إدارة هذا العمل بشكل سليم تمهيدا لتكوين مبادراتهم الخاصة على نفس النمط مع وجود مرجعية «مصارحة ومصالحة»، أما سوسن فرأت أن أفضل المكاسب هو أن يكون أعضاء المبادرة أنفسهم بمثابة «رسل» يدعون إلى نبذ العنف ورفع الوصم عن الطرف الآخر فى كل مكان، ربما يكون الإنترنت أداة لذلك، لكنها تضيف: «قبل عدة أشهر كنا نتناقش حول مستقبل المبادرة، هل علينا أن نضم أعضاء جددا؟ أم يجب أن نساعد آخرين على إيجاد طرق تنظيم مثل هذه المبادرات؟»
تضم المبادرة عاملين فى مجال المجتمع المدنى ومشاركين فى الأنشطة العامة مما أكسبها كفاءة فى مجال تحديد الرؤية وأسلوب العمل، وإدارة الجلسات بشكل احترافى، المكسب الذى أجمع عليه أعضاء المبادرة هو الصداقة، التى تكونت بينهم دون النظر إلى الدين، هذه الروح لم يتواءم معها بعض الأعضاء، الذين دخلوا المبادرة زوارا ولم يستمروا، يروى رامى: «كانت مشكلة تواجهنا دفعتنا إلى عدم التوسع، وهى أن يأت البعض بأجندته أو أن يتخذ موقف المدافع عن دينه وليس موقف المحاور المشارك».

لا تنتظر النتائج
فى عام 2008 أقامت جمعية الشباب الكاثوليكى المصرى مؤتمرا تحت عنوان «الطلاب الجامعيون ما بين الإيمان والحوار» قامت فكرة المؤتمر على أن تعيش مجموعة من الطلاب المسلمين والمسيحيين سويا طوال ثلاثة أيام، وهناك تعرفت مارجريت موسى ــ منسقة المؤتمر ــ على مبادرة «مصارحة ومصالحة»، ورغم أنها لم تشارك فى عضويتها لكن التعرف على أعضاء المبادرة زاد من تفاؤلها وإحساسها بالأمل، أما اليوم فهى تعتبر هذا المؤتمر بمثابة مبادرة مستمرة حتى الآن: «من خلال المؤتمر تعرفت على صديقتى إيمان، وبدأنا نبادر سويا فى طرح أفكار نواجه بها المجتمع، فى عيد الأضحى الماضى دعتنى إيمان أنا ومجموعة من الشباب المسيحى إلى المشاركة فى تجربة غريبة مع جمعية رسالة من أجل تقسيم لحوم الأضاحى داخل أحد المجازر، المشهد للمواطن المسيحى يبدو غريبا، والأغرب هو المشاركة فيه.. البعض سعد بوجودنا، والبعض الآخر أبدى استغرابه وتهكمه، لكن كان لابد لنا من أن نبادر».
تصف مارجريت سنوات الجامعة بأنها لم تساعد على إيجاد هذه الروح بل على العكس ساعدت البعض على أن يزيد من انغلاقه مع أبناء طائفته، ورغم أنها لم تتجاوز الثالثة والعشرين فإن اهتمامها بهذا النوع من الأنشطة أوجد لديها قناعة راسخة بأن «علينا ألا ننتظر النتائج المباشرة من أى مبادرة فى هذا المجال، يكفى التأثير الإيجابى فى الآخرين». وتحاول ضرب مثال على قناعتها، فتقول: «أحد البرامج التابعة للجمعية يعتمد على نقل طلاب فى سن الإعدادى والثانوى إلى بيئة مختلفة،
وهو ما تم حين التقينا أنا والطلاب مع صيادين يعيشون فى عالم مختلف وظروف سيئة، حاولنا المساعدة هناك دون النظر إلى ديانة أحد، وشارك معنا زملاء مسلمون، أظن أن إعداد الشباب الصغير على مثل هذه الروح سيفيده حين ينتقل إلى الجامعة، إلى جانب التأثير الذى نأمل أن يصل إلى البسطاء هناك من أن اختلاف دياناتنا لن تعيق روح المساعدة».
هانى جورج ــ أحد أعضاء مبادرة مصارحة ومصالحة ــ ينتمى هو الآخر إلى نفس جيل مارجريت، الذى ملّ موائد الوحدة الوطنية الشكلية والاحتفالات الكرنفالية بين المسلمين والمسيحيين. ويتفق مع مارجريت فى أن العمل المشترك العام بين أبناء الطوائف المختلفة هو ما يذيب الحس الطائفى والتعصب الذى ازداد مؤخرا فى المجتمع، فحين تقف الفتاة المحجبة مع زميلتها المسيحية فى عمل مشترك أمام المجتمع تصبح هذه الصورة هى الخطوة الحقيقية التى ستواجه الطائفية حسب رأى هانى، موضحا: «الحوارات والنقاشات التى عشتها فى مبادرة مصارحة ومصالحة ربما لم تنزل إلى الشارع فى أنشطة حركية لكنها أوجدت بيئة آمنة شجعت أعضاءها على الكتابة فى الإنترنت، ولفت نظر الآخرين إلى ما قد يكون إساءة فى حق الآخر، كما أن هناك رؤى أخرى لفكرة وأهداف المبادرة لا يمكن إغفالها».
يشارك هانى فى مبادرة أخرى تنشط الآن تحت عنوان: «خلى عندك صوت» تدعو الشباب إلى استخراج بطاقات انتخابية قبل موعد 31 يناير المقبل، ويقول: «مثل هذه التجربة جمعت المسلم والمسيحى فى عمل عام، بعضنا كان فى مبادرة مصارحة ومصالحة والبعض الآخر لا، المهم هو أن نعمل وننشط من أجل المجتمع، وقتها سنتعرف أكثر على بعضنا، وستوجد مساحة أكبر للحوار».
بعض صور المبادرات تتبنى فكرة الاتجاه إلى مواقع الأزمات الطائفية، هذا ما فعله اثنان من أعضاء «مصارحة ومصالحة» توجها مؤخرا إلى مدينة نجع حمادى مع مجموعة من النشطاء السياسيين والحقوقيين والمدونين بهدف تعزية أهالى الضحايا ورفع حالتهم المعنوية، لكن المفاجأة أنه تم القبض على المشاركين، الذين جاء بعضهم عن طريق الفيس بوك، ولم تنجح مبادرتهم بسبب العرقلة الأمنية، التى رأت فى تواجدهم نوعا من التجمهر يوجب الحبس.
يرى نبيل عبدالفتاح ــ الخبير بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية والسياسية والمهتم بدراسة الوضع الطائفى فى مصر ــ أن المبادرات التى تصدى لها هذا الجيل الشاب أوجدت نوعا جديدا من المبادرات على عكس ما كان يحدث فى الماضى حين اقتصرت على من هم فوق الخمسين وفى إطار متصل بالسلطة، لكنه لا يخفى بعض التحفظات: «تابعت بعض هذه المبادرات مثل مبادرة مصارحة ومصالحة، وأصبحت سمة هذا النوع من العمل الذى جاء من مجتمع الإنترنت أنه لم يحقق توازنا بعد بين نجاحه الواسع فى الإنترنت، حيث المجتمع الافتراضى ونجاحه فى المجتمع الواقعى».
يعتقد نبيل عبدالفتاح أن أمام هذا الجيل فرص أفضل، حيث يوفر له الإنترنت أدوات جديدة قد تمكنه من أن يوجد آليات أكثر تطورا فى التعامل مع مشاكل المجتمع وتحديدا فى مسألة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، ويضيف: «حادثة نجع حمادى الأخيرة تقدم نمطا جديدا من فكرة القتل العشوائى، الذى لا يهتم بتحديد الضحية، وهو نمط خطير يستوجب علينا مزيدا من العمل، وعلى الجيل الشاب استغلال أدواته لتنمية رأسماله الوطنى فى مجتمع مدنى سليم».

أرقام المصارحة والمصالحة
فى عام 2008 أجرت مجموعة مصارحة ومصالحة استبيانا عبر موقعها على الإنترنت على عينة تتكون من نحو 3500 مشارك.
من الأسئلة الموجهة للمسيحيين
- هل دخلت جامع من قبل؟: 55% أجابوا بنعم، 45% أجابوا لا.
- المسيحى أولى بالثقة من المسلم: 46% أجابوا غير صحيح، 22% أجابوا صحيح، و30% لا يعرفون أو غير متأكدين
- هل المسيحى فى أوروبا أو أمريكا أقرب لك من المصرى المسلم؟: 81% أجابوا لا، 19% أجابوا نعم.
من الأسئلة الموجهة للمسلمين
- القساوسة بيعملوا سحر؟ 32%: أجابوا غير صحيح، و9% أجابوا بصحيح و59% أنهم غير متأكدين أو لا يعرفون.
- القساوسة يلبسون أسود حزنا على دخول الإسلام مصر: 39% أجابوا بغير صحيح و11% أجابوا بصحيح 50% أجابوا غير متأكدين أو لا يعرفون.
- هل المسلم فى جنوب أفريقيا أقرب لك من المسيحى فى مصر؟: 36% أجابوا نعم، و64% أجابوا لا.

Sunday, January 17, 2010

المرأة والتصوف.. صوت خافت وسط الضجيج

عبدالرحمن مصطفى
تصوير- هبة خليفة
قد لا يفصح المكان عن الكثير.. مجرد لافتة مدون عليها «ساحة أهل البيت» وفوقها اسم الحاجة زكية عبدالمطلب بدوى، من الصعب فهم أبعاد الموقع أو تفاصيله إلا بعد معرفة سيرة صاحبة الساحة وقصتها، هنا فى درب الطبلاوى بحى الجمالية. لايزال يتذكر البعض أنها كانت تطعم يوميا الفقراء وعابرى السبيل وتستضيف المريدين وأحباب أهل البيت، أما اليوم فتعمل ابنتها الحاجة نفيسة المهدى والحفيد أحمد محمود على إكمال ما بدأته صاحبة الساحة.
«كانت هناك إشارات مبكرة على شفافيتها وهو ما زادها تعلقا بأضرحة آل البيت، وأصبحت تأتى بصورة شبه يومية من بلدتها فى الدقهلية إلى القاهرة، حتى جاءتها رؤية صالحة دعتها فيها السيدة زينب للزيارة والإقامة إلى جوارها، فاعتزلت الدنيا وأقامت ساحة للذكر وإطعام الطعام».
تلخص الحاجة نفيسة قصة والدتها بهذه الكلمات التى تكاد تحاكى السير الشعبية لصوفيات وعارفات بالله توارين فى ظلال التاريخ ولم يبرز منهن سوى القليل من أمثال رابعة العدوية وعقيلات آل البيت. لاتزال الابنة تتذكر الشخصيات التى وفدت إلى هذا المكان من المشاهير الذين تحولت حياة بعضهم بكلمات طمأنة وعظات بسيطة، أما نشاطها الرئيسى إلى جانب العمل الخيرى فكان الذكر وتهيئة المكان لأصحاب الحضرة.
«امرأة تركت أهلها فى الريف فى بدايات القرن الماضى وأقامت هنا وتحملت مسئولية خدمة الناس على مدار 24 ساعة وأصبحت عليها مسئولية اجتماعية فى الإنصات إليهم فى كل وقت، رغم غلظة البعض. كل تلك الأمور أجدها اليوم منهكة لى ولوالدتى حين حاولنا استكمال مسيرة الشيخة زكية»، بهذه الكلمات يصف الحفيد أحمد حياة جدته الشيخة زكية التى توفيت فى العام 1983، بعض تفاصيل القصة تحمل الملامح التقليدية للمرأة الزاهدة المتصوفة التى ذاع صيتها بين الناس لكرمها وكراماتها، هذه الصورة بدأت فى الانحسار مع قلة استخدام تعبيرات من نوعية «العارفين بالله» وغيرها من الألفاظ، بعض العلماء ذوى الميول الصوفية جذبتهم قصة الشيخة زكية بعد أن عرفوها كزاهدة معتزلة للدنيا، من هؤلاء الشيخان الراحلان محمد متولى الشعراوى ومحمد صادق العدوى خطيب الجامع الأزهر، لكنها لم تكن عالمة مثلهما فى مجال الدين، ولم تحمل فلسفة أو إنتاجا أدبيا مثل الصوفيات الشهيرات، يعلق عليها حفيدها على هذه النقطة بقوله: «لم يكن يأتيها الناس طلبا للعلم، بل بحثا عن الخير والطمأنة التى تبثها الطاقة الروحية التى تملكها، ثم إن شيخنا أبا الحسن الشاذلى نفسه الذى تنتسب إليه طريقتنا الصوفية لم يترك كتبا، بقدر ما ترك مريدين».
نموذج الزاهدة الذى كانت تمثله الشيخة زكية قد يعيق ظهوره اليوم العديد من الأسباب على رأسها غياب هذا النموذج، فقد تلقت الشيخة زكية دعما من أسرتها التى لم تقف ضدها بل كان زهدها وعملها مع العامة والخاصة بدعم من زوجها وابن خالها الشيخ محمد المهدى، فهما ينتسبان إلى طريقة صوفية واحدة وإلى آل البيت. لم يكن الزوج مخيرا فى ذلك بل كان يتعامل مع ما تراه زوجته من رؤى ورغبات زاهدة على أنها يقين وحقيقة، حيث اعتزل هو الآخر حياة المدينة وعمل على الدعوة قرب قريته بأمر من شيخه.
تقول ابنتها نفيسة المهدى: «كان يمكن ألا نراها لمدة عام ونصف، لكننا كنا متفهمين ذلك لأننا أبناء طريقة وعلمنا أنها من أهل الكرامات».

راحتى يا إخوتى فى خلوتى
(رابعة العدوية)
البحث فى التاريخ الإسلامى عن نموذج للمرأة الصوفية يكشف عن أن بعضهن كن صاحبات علم ورؤية ولسن مجرد زاهدات أو صاحبات كرامات لكنهن رغم ذلك توارين فى كتب التاريخ. ترى الدكتور أميمة أبو بكر ــ أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة وإحدى المهتمات بإعادة قراءة تاريخ المرأة فى الإسلام ــ أننا نكاد لا نعرف من تاريخ الزاهدات والعابدات فى العصور الإسلامية سوى رابعة العدوية، فى حين أن الكثيرات منهن أذكين الجانب الروحى فى الحياة الدينية أثناء العصور الإسلامية، بل أثرن فى الفكر الصوفى بأفكارهن عن العلاقة بالله ورغم ذلك فقد همشتهن كتب التاريخ، حتى الكتب الحديثة التى تؤرخ لتاريخ المرأة فى الإسلام.
وفى ورقة بحثية لها تحت عنوان «قراءة فى تاريخ عابدات الإسلام» ترصد الدكتورة أميمة أبوبكر أسماء العديد من الزاهدات العابدات فى المجتمع الإسلامى وتذكر أن: «العابدات والزاهدات الأوائل استطعن أن يوجدن مساحة كبيرة من حرية الحركة والسفر والزيارة والتحرر من القيود التقليدية على حركة النساء، بل والتحرر السياسى والاقتصادى حين كن ينفقن على أنفسهن من العمل».
قديما حسبما تذكر الدكتورة أميمة أبوبكر كانت الأدوار الأسرية للمرأة الزاهدة لا تشكل قيمتهن الوحيدة فى الحياة، فالمرأة الناسكة ليست مجرد امرأة تابعة للرجل، بل كانت المتزوجات منهن ينظرن إلى رباط الزوجية على أنه مسئولية روحية وشركة فى العبادة.
ما من شك فى أن قصة مثل قصة الشيخة زكية تكاد تكون بارزة بشكل لافت لأنها تمزج بين الصورة الشعبية للعارفة بالله وجرأة المرأة الزاهدة فى الإسلام وإقدامها، فقد اختارت أن تنفق ميراثها على الخير، وبنت مسجدا لها وساحة فى قلب الصحراء الشرقية قبل وفاتها لخدمة العرب هناك بجوار مقام القطب الصوفى أبى الحسن الشاذلى، وهو ما خفف من وحشة المكان هناك الذى يرتاده آلاف المتصوفة من جميع الأقطار.
اليوم مع انتشار التعليم والعمل فى أوساط النساء ودخول تيارات دينية متعددة على الخط أعادت النظر فى التصوف بل اتخذت منه أحيانا موقفا عدائيا.. زادت الضغوط على المرأة الصوفية وأصبح من الصعب أن تظهر نماذج لامعة فى هذا المجال، خصوصا أن بعض اللوائح التنظيمية الحديثة تعيق تقدمها عن طريق تجمع مثل المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذى لا يقبل عضوية النساء داخله.. السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ تقول إن اختلاف إيقاع الحياة هو الذى غيّب السيدات الصوفيات عن الساحة، وهو ما جعلنا لانزال متعلقين بسير الزاهدات الأوائل أو من حاولن السير على طريقهن. ربما لا تشعر السيدة ماجدة بمرارة بسبب مسألة العضوية تحديدا وتعتبر أن اقتصار عضوية المجلس الأعلى للطرق الصوفية على الرجال لا يحد من وجود المرأة الصوفية فى الحياة العامة، وهى تبرر ذلك بأن من يمتهن الصحافة ليس بالضرورة حاملا لعضوية نقابة الصحفيين. وترى المشاكل فى جوانب أخرى، تذكرها: «المرأة الصوفية اليوم كأى سيدة مصرية هى طالبة فى الجامعة أو تعمل فى مجالات متعددة وعليها إلى جانب ذلك أن تكون مصغية للجميع ومضيافة فى بيتها للمريدين خصوصا إن كانت زوجة شيخ الطريقة الذى عليه ألا يرد أحدا دون إجابة طلباته، فهى معه فى كل أنشطته تقريبا».
السيدة ماجدة عيد بادرت بفكرة تأسيس جمعية للمرأة الصوفية كى تضم بعض زوجات المشايخ والراغبات فى الالتحاق بها، وتلقت هذه الجمعية التى لاتزال تحت التأسيس نقدا عنيفا من بعض مشايخ الصوفية الرافضين للفكرة بدعوى أنها لا تتفق مع المنهج الصوفى التقليدى، لكنها هى وزميلاتها المتعاونات معها لا يخفين أن الإحساس بالخطر كان أحد أسباب ظهور فكرة الجمعية، مضيفة: «لا أنكر أن تقاعس الصوفيين عن الدعوة الإسلامية مقارنة بتيارات أخرى أكثر تشددا أو مسيسة قد دفع بالفتيات إلى هذه التيارات وكان بعضهن للأسف من الصوفيات. فلدى جماعة مثل الإخوان المسلمين نشاط قوى داخل الجامعة والشارع، وكذلك الدعوة الوهابية المتشددة لها منابرها التى تنفق عليها ببذخ، والمشكلة أن الطرق الصوفية تعمل بمجهودات أبنائها، وأصبحت حركتها أضيق على عكس فى الماضى حين كانت سببا فى نشر الإسلام بين البلدان المختلفة».
هذه الأعباء من ضمنها الحرب المعلنة من بعض المحسوبين على التيارات السلفية ضد الصوفية، وبعضهم يحمل إدانة للمرأة الصوفية نفسها، وهو ما لا تنكره السيدة ماجدة فى حديثها عن الصورة العالقة فى أذهان شريحة من المصريين والناتجة عن تصرفات بعض العامة من النساء اللاتى يندسون وسط الموالد ويظن هؤلاء أنهن متصوفات. وهنا أوجد غياب الصورة التى تمثل المرأة الصوفية فى المجتمع صورة أخرى أكثر ضبابية، وأصبح المجتمع متحيرا بين صورة تراثية لنساء مثل رابعة العدوية وصورة أخرى سلبية لبسطاء الموالد، وبين هذا وذاك مريدات تحكمهن قيود وقواعد داخل الطرق الصوفية، لذا كان لابد من نماذج جديدة تمثل شكلا جديدا مثل نموذج الدكتورة عبلة الكحلاوى ــ أستاذة الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر ــ التى تستخدم فى أحاديثها تعبيرات صوفية وعلى موقعها تصف نفسها بعبارات زاهدة مثل «العبد الفقير التى ترجو المغفرة والرحمة وحسن الخاتمة»، لكنها لا تقدم نفسها على أنها صوفية تقليدية، المفارقة أن الدكتورة عبلة الكحلاوى كانت إحدى من شهدن ساحة الشيخة الزكية فى صغرها بحكم نشأتها فى بيت الفنان محمد الكحلاوى الذى ختم حياته متعلقا بسير العارفين بالله وأقطاب الصوفية.. لكنها رغم هذه التفاصيل لايزال ظهورها الأهم فى المجتمع وعلى المستوى الإعلامى بشكل فردى وغير محسوب على تيار أو طريقة صوفية، بل كأكاديمية ووجه إعلامى مقبول.
الدكتور عمار على حسن ــ الباحث المهتم بالحركات الصوفية ــ يرى أن بزوغ نماذج لامعة من الصوفيات قديما كان سببه الرئيسى هو أن التصوف كان فرديا أو «جوانى»، ولا يخضع لطريقة أو هيكل تنظيمى ذكورى، وأن عودة نساء يحملن الحس الصوفى فى المجتمع مرة أخرى لن يقوم إلا عن نفس الطريق، ويقول: «أحيانا ما تبرز نماذج لشيخات صوفيات فى المناسبات الدينية والموالد، لكنهن لسن على مستوى القيادة ولا يمثلن عدد عضوات الطرق الصوفية والمريدات فيها، وحسب القانون 118 لسنة 1976 الذى ينظم عمل الطرق الصوفية فى مصر تنتقل مشيخة الطريقة بعد وفاة شيخها فى أقرب أقربائه الذكور، وهو ما أسهم فى إبعاد المرأة عن الصورة، كما أنه لا يمكن التعويل على أن ظهور جمعية تجمع الصوفيات سيشكل تغييرا كبيرا لأنها فى الواقع تضم زوجات المشايخ لكنه تطور إلى الأفضل خارج السياق التقليدى». ويزكى الدكتور عمار التوجه الصوفى الفردى الذى يرجح أنه قد يساعد فى تقديم نماذج لنساء بارزات فى المجتمع يحملن داخلهن هذا الحس الصوفى الذى يعتمد على أفكار وسلوكيات أكثر من أشكال تنظيمية.
العارف يرى المعرفة ولا يرانى
(المواقف والمخاطبات، للنفرى)
بعض الفتيات اخترن هذا الطريق بالفعل للابتعاد عن التفاصيل المربكة التى أصبحت تحيط التدين بشكل عام فى المجتمع، فانتقلن بالدين إلى مساحتهن الخاصة فى علاقة خاصة بينهن وبين الله بعيدا عن التصنيفات وتقييم الآخرين. حنان محفوظ هى فنانة تشكيلية تعيش هذه الحالة حتى يظنها البعض للوهلة الأولى فتاة صوفية، لكنها تجيب مباشرة: «أنا مش صوفية»، وذلك رفضا للتصنيف لكنها فى الحقيقة لا تخفى أن لديها ذلك الحس الذى لا ترغب فى أن يتحول إلى انتماء لطريقة أو اندماج فى مبالغات يعتنقها البعض. تقول: «ذلك الحس لاحظته فى جميع الأديان حتى الأديان الشرقية، الأمر بالنسبة لى هو مشاهدات تربطنى أكثر بالسماء والخالق، كأن أرى فى الأمطار رسالة من السماء تدعونا إلى أن نكون على صلة أكثر بالله، فى حين قد يرى فيها صديق آخر أنها سبب فى الأوحال وإعاقة لحركة الناس».
فى حفلات الانشاد الصوفى وبعض المناسبات الدينية تبدى بعض الفتيات اهتماما بالغا حتى إن لم يكن على التزام كامل بما يصفه البعض الآن بالزى الإسلامى. إحدى الممثلات الشابات على حسابها على الفيس بوك سجلت رؤيتها الدينية على أنها «صوفية» فى حين أنها طوال الوقت تبدو متحررة سواء داخل صفحتها أو على شاشة العرض السينمائى.
هذه المفارقة لا تشغل بال السيدة ماجدة عيد ــ زوجة السيد محمد الشهاوى شيخ الطريقة الشهاوية ــ التى ترى فى هذا خير وخطوة على الطريق قد تدفع إلى طريق الله، وكذلك تؤكد حنان محفوظ أن نمط الحياة اليومى والحس الروحانى والقدرة على التأمل هو الذى يجعل شريحة من الشباب اليوم تميل إلى الصوفية دون أن تدعى أنها كذلك، وتقول حنان: «حين قرأت للنفرى وغيره من شعراء الصوفية شعرت بتقارب كبير فى أفكارى مع بعض الأفكار الصوفية عن الروح والزهد والرضا واليقين وفكرة التوبة، كلها أشياء دقيقة بالنسبة لى، لكن اختيارى هو أن تكون علاقتى مع الله منى وإلىَّ وليست خاضعة لتبعية أو مراقبة من أحد».
حسب حديثها أيضا فهى تغبط من تفرغن للعبادة من الناسكات القدامى أمثال رابعة العدوية وغيرهن لكنها بيدها مواهب ترى أن عليها الاستفادة منها بل والاستمتاع بها أيضا.
العودة إلى ساحة الشيخة زكية فى حى الجمالية تحيى صورة المرأة الصوفية الناسكة الزاهدة التى بدأت فى التلاشى، وتكفى نظرة على خلوتها التى كانت محل ذكر وتسبيح حتى تنقل إلى الجالس فى حضرة الشيخة احساسا بأنها كانت نموذجا يحاكى عقيلات آل البيت والعابدات الأوائل، أما اليوم فهناك من احتفظت بتصوفها فى قلبها، وهناك من تحاول رسم صورة جديدة للمرأة الصوفية أكثر تماشيا مع الواقع.

Wednesday, January 6, 2010

في ظلال شجرة مريم

عبدالرحمن مصطفى
تصوير- مجدي ابراهيم

موقع شجرة مريم بالمطرية، حيث مرت العذراء وصغيرها قد تغير ولم يعد له الطابع الريفى نفسه، لكنه على أرض الواقع لا يزال يفرض سطوته على السكان

وسط المساكن القديمة ناحية شارع المطراوى فى حى المطرية، يمر التوك توك سريعا برشاقة وخفة يحسد عليها دون أن يلتفت سائقه إلى اللافتة المعلقة «محكى بئر وشجرة مريم». يعلم السائق الشاب قدسية المكان وأنه يمر بعجلات مركبته الصغيرة فوق نفس الأرض التى خطت عليها السيدة العذراء، لكن كل هذا لا يدفعه لتجربة الدخول وزيارة شجرة مريم أو التعرف على تفاصيل المكان.
نهلة كانت إحدى هؤلاء الزوار، أتت للمكان بصحبة أبنائها: «هذه المرة الأولى التى أزور فيها المكان، وكنت أخشى أن تكون هناك إجراءات معقدة للدخول أو أن يكون هناك زحام يمنعنا من الزيارة، لكن الأمور اتضح أنها أبسط بكثير».
لم تشأ نهلة أن تذكر سبب زيارتها، فقط قالت إنها أتت للزيارة والتشفع ببركة العذراء، وقبل زيارتها بفترة وجيزة كانت فى زيارة أخرى لطاحونة البابا كيرولوس فى مصر القديمة. فى هذا المكان احتضنت شجرة الجميز العامرة الأوراق السيدة العذراء والسيد المسيح ورفيق رحلتهما يوسف النجار بعد أن فروا جميعا من بطش الحاكم الموالى للرومان، حين أراد قتل المسيح بعد نبوءة أخبرته بأنه خطر على ملكه.
يقول الكتاب المقدس: «وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه. فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانصرف إلى مصر». (متى2 :13ـ14).
هذه النصوص رسخت مكانة موقع الشجرة ومزارات العائلة المقدسة فى قلوب المصريين، أما الموقع اليوم فقد اختلف تماما عن بساطته الأولى، حيث يحاط بسور عالٍ للحماية وشباكين للتذاكر، وعلى الجدران صلبان وآية منحوتة «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون» (82 سورة المائدة).
كل هذه التطويرات لم تكن موجودة قبل عشر سنوات فقط، تروى سعدية شاش مفتشة الآثار فى الموقع بعض المفارقات وتقول: «أغلب الزوار من أفواج شركات السياحة لكن هناك زوارا من أماكن مختلفة سواء من المسيحيين أو من المسلمين الذين أتوا بحثا عن البركة أو مجرد الزيارة والتعرف على المكان».
تكمل السيدة سعدية الجولة بحماس، بدءا من البوابة مرورا بالبئر التى يرجح البعض أن العذراء قد غسلت ابنها بمياهها، وتسير بعدها فى طريق طولى تتوسطه الشجرة، وتوضح السيدة سعدية بعد سبع سنوات من العمل فى هذا المكان: «المكان هادئ وبسيط ويبعث على الراحة النفسية». ثم تشير إلى الشجرة المقدسة وقد تمت تغطيتها بأغطية بلاستيكية وتضيف: «حين نلاحظ وجود الغيوم فى السماء أو تقلب فى الطقس تتم تغطيتها حفاظا عليها».
داخل الموقع لا تنقطع الصلوات، جوار البوابة عسكرى فى زيه يصلى العصر قبل ساعات قليلة من إغلاق الموقع فى الخامسة، وبعض الزوار يتلون نصوصا مقدسة فى المكان المبارك.
لا تخفى السيدة سعدية بعض الشكاوى عن أن انخفاض مستوى الأرض عن مستوى الشارع فى الخارج يؤدى فى بعض الأحيان إلى دخول مياه الصرف الصحى إلى الموقع، وهو ما يضطر العاملين إلى التعامل معها سريعا وبشكل مباشر.. أما فى خارج الموقع فهناك عالم آخر ،حيث يتكرر اسم مريم على العديد من المواقع والأماكن، مدرسة شجرة مريم، وقاعة أفراح شجرة مريم، ومكتبة شجرة مريم...
وفى بداية الدخول للمنطقة تستقبلك كافتيريا مريم، هناك كان يجلس الحاج محمود ربيع (73 سنة) ــ على المعاش ــ الذى استقر فى حى المطرية منذ الطفولة ورأى نفس هذا الموقع قبل أن تبنى مساكن شجرة مريم فى الستينيات وقبل أن يتم تطويره قبل أكثر من عشر سنوات على يد رجلى الأعمال «منير غبور»، و«نجيب ساويرس» وما تبع ذلك من وجود كثيف لرجال الأمن.
يشير الحاج ربيع إلى السور العالى ويقول: «كل هذه المساحة قبل إنشاء المساكن كانت مشاتل تابعة للأوقاف، كنا نأتى هنا صغارا لاصطياد العصافير فى رحاب شجرة مريم، وإلى جوارها كانت هناك ساقية أزيلت الآن».
لم يكن هذا الموقع فقط الذى تغير، بل كانت منطقة المطرية أقرب إلى الروح الريفية، فحتى البيوت التقليدية على الضفة الأخرى من شارع المطراوى لم تكن موجودة بهذه الكثافة، حين كان الجالس أمام شجرة مريم يمكنه رؤية «المياه الحلوة» حسب تعبير الحاج محمود ربيع التى يقصد بها القنوات المتفرعة من ترعة الإسماعيلية.
فى داخل الموقع الأثرى الوضع يبدو أكثر تطورا وتعقيدا، حيث تتبدل الورديات بين مفتشى الآثار، السيدة هناء لطفى اسكندر مفتشة الآثار بالموقع تتفهم بعض انطباعات زوار المكان حين يرون الوجود الأمنى والأسوار العالية، وتقول : «بعض الزوار أحيانا لا يرغبون فى دفع التذاكر رغم أنها لا تتجاوز الجنيهين، وأضطر أحيانا إلى دفع قيمة التذكرة لبعض البسطاء.. لكن الغالبية تتفهم الوضع بعد الشرح».
تمر على السيدة هناء فى المكان جنسيات متعددة من جنسيات روسية ويونانية وحبشية وسودانية أتوا للتبرك والتشفع، تشير إلى الشجرة الأصلية حيث كتب عليها بعض الكلمات اللاتينية، شارحة : «حتى جنود الحملة الفرنسية حفروا أسماءهم هنا عرفانا بالجميل إلى العذراء بعد أن تشفعوا بها لإصابتهم بمرض جلدى استشرى بينهم، وهذه هى شجرة الجميز الأصلية التى احتمت بها العائلة المقدسة، أما الموجودة حاليا بجوارها فقد زرعت من فرع منها قبل مئات السنين وما زالت تؤتى ثمارها فى شهر أغسطس من كل عام».
لاحظت أيضا السيدة هناء بعد عشر سنوات من العمل فى المكان أن بعض السيدات اللاتى لم ينجبن يأتين هنا للزيارة والتبرك وكذلك من الدول العربية، ولاحظت أن نسبة كبيرة من الزوار من المسلمين خاصة من الأماكن القريبة.

حفائر الذاكرة
رحلة العائلة المقدسة لم تترك آثارا عميقة فى الأرض مثلما تركت آثارها فى الذاكرة، فالبئر التى يرجح أنها اغتسل فيها المسيح بيد أمه العذراء مريم ذكرت المصادر المسيحية أنها نبت حولها نبات البلسم الشافى الذى يستخدم زيته فى أغراض دينية، لذا سمى الشارع المجاور بشارع البلسم، وخلفه شارع آخر باسم المقعد لأنه الشارع الذى جلست فيه العائلة المقدسة، أما القصة الأشهر فهى قصة الشارع الذى لا يختمر فيه العجين.
تروى المصادر المسيحية أن السيدة مريم فى أثناء مرورها ناحية الشجرة مرت بأهل بيت وطلبت منهم خبزا فرفضوا، فظل هذا المكان لا يختمر فيه العجين ولا يصلح فيه الخبز. محى ــ مسئول الأمن التابع للمجلس الأعلى للآثار يروى تلك القصة ــ وبحكم أنه من سكان حى المطرية فقد طرح نفس الجدل الذى يتحدث عنه البعض حول ما إذا كانت قد أصابت هذا المكان لعنة ما، وهل توقف الخمير عن العمل هو فى يوم واحد فى العام أم طوال العام؟
إلى جوار شارع المطراوى شارع ضيق اسمه شارع أبوفايد، تتفرع منه حارة أضيق اسمها حارة عيد، شباب الحى لم تجذبهم قصة مرور العائلة المقدسة من هذا المكان، لكن الحاج أحمد حسن استقبل الاستفسار بابتسامة عريضة أثناء راحته فى صالون الحلاقة الذى يديره، وأشار إلى الحارة التى أمامه: «يقال إن فى هذا الموقع مرت العذراء من هنا ورفض الناس إطعامها فأصبح كل من يسكن هنا لا يستطيع الخبيز». يشير إلى الحارة المقابلة للمحل أمامه : «هذه الحارة قديما كانت تسكنها عائلة واحدة ولها بوابة، القدامى هم من كانوا يرددون هذه القصة، أما اليوم فلا أحد يتذكر أو يهتم».. ويضيف: «على فكرة.. هو يوم واحد فقط فى السنة الذى ينقطع فيه الخمير من بيوت المنطقة».
هذه القصص لم تنته من منطقة شجرة مريم فى حى المطرية، وما زالت الذاكرة تحملها دون تقصٍ، لأن الجميع يعلم أنها مرت من هنا مع وليدها المبارك، وهذا يبرر كل قصة وحكاية.
حول الموقع الأثرى مسجد قريب، وكنيسة كاثوليكية للعائلة المقدسة «شجرة مريم»، وكنيسة العذراء المعروفة بكنيسة شجرة مريم وهى كنيسة قبطية أرثوذكسية، كاهنها هو الأب القمص يوحنا فؤاد يوسف الذى بدا مشغولا مع شعب الكنيسة فى فترة الأعياد، كما أن بعض الزوار يتجهون للزيارة لمجرد الاستئناس بالمكان.
يقول القمص يوحنا: «كل مكان زارته العائلة المقدسة له مكانة وترابه مقدس، لكن ما يسىء إلى المكان هو عدم الوعى بأهمية النظافة حوله، وهناك من خدام الكنيسة من لديه الاستعداد لتحمل عبء النظافة، لكن لابد من التعاون، خاصة أن هذا يسىء إلى سمعة مصر أمام الزائر الأجنبى الذى جاء خصيصا لزيارة المكان».
مازال الأب يوحنا يحتفى بالتطوير الذى طرأ على المكان قبل عشر سنوات حين حضر المحافظ والبابا لافتتاحه، فقبل هذا التطوير كان المكان فى عهدة أناس بسطاء لم يحافظوا جيدا على المكان، وهو ما دفع البعض إلى أن تصبح هذه الشجرة قضيتهم كما يقول الأب يوحنا: «على سبيل المثال كانت هناك امرأة اسمها فيكتوريا من حى الزيتون المجاور وتولت مسئولية شجرة مريم ونظافتها، حتى اللحظات الأخيرة فى حياتها».
ليست السيدة فيكتوريا فقط هى التى يتذكرها أهالى المنطقة جيدا، بل يتداول الكثيرون قصة أحد سكان مساكن شجرة مريم الذى حاول قبل سنوات عديدة قطع الشجرة وإزاحتها من المكان ووضع يده عليه، فأصابه الشلل حتى مات.
هذه القصة يذكرها الأب بولس القس بنفس الكنيسة ويقول: «القصة نقلها إلينا إخواننا المسلمون الذين تابعوا الموقف وقتها أكثر منا».

Sunday, January 3, 2010

حراس الذكريات

«كيف أقبل أن يساء إلى فريد الأطرش على شاشة التليفزيون؟» يتساءل محمد زكى إسماعيل بعصبية حين يتذكر العبارة التى قالها الإعلامى مفيد فوزى فى رمضان الماضى عن فريد الأطرش فى البرنامج الساخر «الكابوس». ويضيف: «لم أسكت وأنا أرى العبارة تتكرر فى دعاية البرنامج، واتصلت بمعارفى وحاولت تصعيد الموضوع قدر استطاعتى لحماية ذكرى فريد من أى عبارة قد تسىء إليه».
لم يكن مفيد فوزى يهدف إلى الإساءة حين استخدم تعبير: «هبل فريد الأطرش» للإشارة إلى طيبة قلبه، لكن أحد معجبى الفنان فريد الأطرش لم يكن ليقبل هذا الوصف فى أى سياق. محمد زكى إسماعيل صاحب هذا الموقف، يقدم نفسه الآن على أنه رئيس جمعية فريد الأطرش وأسمهان، ويكاد يكون بمثابة جمعية متحركة بعد سنوات من خمود الجمعية الأصلية فى الإسكندرية ورحيل مؤسسيها من محبى فريد الأطرش الذين أسسوها عام 1976.
وبعد سنوات طويلة من انكماش نشاطها بقى محمد زكى صامدا يدافع عن سيرة فريد الأطرش وذكراه إلى اليوم، ويقول: «المفارقة أننى لم أقابل فريد الأطرش سوى مرتين فى حياتى، فى المرة الأولى تحدثت معه فى حفلة غنائية وطلبت منه صورا فدعانى إلى منزله وزرته هناك للمرة الثانية، ولم أكن أصدق أنه متواضع مع معجبيه بهذا الشكل». يصمت قليلا وهو يتذكر هذا اللقاء، ثم يضيف: «بعد وفاته رأيته فى المنام مرتين، الأولى وهو يرتدى ملابس بيضاء متكئا على مجلس عربى، ورؤيا أخرى وهو فى وسط حراس أشداء فى مكان راق».
يظن محمد زكى أنها رؤية صالحة، لكنه لديه على أرض الواقع مهام أخرى تتعدى الرؤيا المنامية لخدمة ذكرى مطربه المحبوب، حيث يرى أنه لا يوجد على الساحة من ينافسه فى ترجمة الوفاء إلى أفعال، فهو واحد من فئة تحرس ذكرى الفنانين وتدافع عنهم فى كل مكان، ويكاد يكون هذا هو نشاطهم الأول فى حياتهم. يوضح محمد زكى: «فى بداية الجمعية كانت هناك شخصيات من المعجبين المؤسسين أخلصوا بشدة لفريد الأطرش ودون انتظار مقابل، أما الآن فلا أجد أحدا غيرى فى هذا المجال دون مقابل، خصوصا أننى على المعاش ومتفرغ لهذا الأمر».
إحدى مهامه الآن أن يرعى ذكرى فريد الأطرش بأن يتواجد فى مناسبات مثل ذكراه السنوية، وأن يتابع ما يكتب عن المطرب الراحل فى الصحافة، والتأكد من أن الاعلام والمؤسسات الثقافية تعامل فنانه المحبوب على نفس قدر معاملة الفنانين الكبار الآخرين، ومنذ سنوات عديدة يفتش فى أرشيف الصحافة الفنية لجمع المعلومات عن فريد الأطرش كى ينقلها إلى الجمهور فى المناسبات المختلفة، فتواجده الإعلامى الموسمى هو ما يصنع نشاطه الحقيقى: «حين أترك رقم تليفونى فى الإذاعة أو التليفزيون أتلقى العديد من الرسائل والمكالمات من جميع الأقطار». ومن هذه العلاقات أصبح على صلة بالكثير من محبى الفنان فريد الأطرش داخل مصر وخارجها وسفيرهم فى القاهرة.
فى إحدى المرات اتصلت إحداهن لمجرد افتقادها فقرة فريد الأطرش فى الإذاعة، وبدوره اتجه محمد زكى للاتصال بالإذاعة للتأكد من الأمر.. هذا النموذج من المعجب القديم الذى تحول إلى حارس للذكريات، لا يقتصر على حالة محمد زكى فقط، فهناك بعض الأماكن تستضيف تجمعات المعجبين القدامى، ويبزغ من بينهم من يتصدر هذه الاحتفاليات، أحد هذه الأماكن جمعية الشبان المسيحية التى تستضيف جمعيات الفنانين ومعجبيهم، فى بداية الشهر الحالى احتفلت الجمعية مبكرا بذكرى الفنان فريد الأطرش، وقبلها بأسابيع استضافت جمعية محبى محمد فوزى.
وهكذا كان الحال أيضا مع ذكرى عبدالحليم حافظ وغيره من الفنانين. فى هذه اللقاءات تجمع المنصة أصدقاء الفنانين ومعجبيهم القدامى، وبين الحضور من يقف ليلقى شعرا فى حق صاحب الذكرى، ويصعد بعض الأطفال لتقديم أغانى الفنان الراحل، ويظهر فى الحفل مغنون أقرب إلى المقلدين يحاكون صوت الفنان الغائب. لكن يظل صاحب الصوت الأعلى فى المكان هو الأستاذ رشيد جبران مدير هذه الاحتفاليات التى يراها نجاحا فى الحفاظ على ذكرى أهل الطرب الأصيل، ويقول: «يكفى أن تكون هذه المناسبات فرصة لتدريب شباب صغار من الموهوبين على أداء أغانى العظماء وسط هذه الفوضى الغنائية».
داخل هذه الاحتفاليات يكون هو الشخصية المحورية، ولا يخلو الأمر من منافسات بين الجالسين فى محاولة إبراز قدراتهم على سرد أعمال الفنان صاحب الذكرى والتباهى بالمعلومات. لكن السيد رشيد جبران مدير هذه الاحتفاليات رغم اهتمامه بهذه المنافسات لايزال يعتبر أن أعمال الفنانين وحدها هى التى ستحفظ ميراثهم لدى الأجيال الجديدة.

مجموعات الفيس بوك
الأجيال الجديدة التى يتحدث عنها السيد رشيد لم تتخل تماما عن صلتها بفنانى الماضى، فعلى مجموعات هؤلاء الفنانين الراحلين فى شبكة الفيس بوك الاجتماعية لايزال هناك عشرات الشباب من المشاركين فى مجموعاتهم وصفحاتهم هناك، إلى جانب تواصلهم على مواقع هؤلاء الفنانين. غير أن مقارنة بسيطة بين ترتيب هذه المواقع على شبكة الإنترنت ومواقع نجوم الساحة الغنائية الحاليين مثل عمرو دياب وتامر حسنى تكشف أن التقدم للنجوم الحاليين، كذلك فى داخل المواقع الإخبارية والمنتديات تبرز أسماء مستعارة لنشطاء شباب يدافعون عن المغنى المحبوب على الشبكة، فى حين اقتصر هذا الدور عند معجبى المطربين الراحلين على من تمسكوا بالأسطوانات وأشرطة الكاسيت وإحياء ذكرى فنانيهم فى احتفالات على أرض الواقع وعبر شاشات التليفزيون.
أحد هؤلاء هو الأستاذ صلاح الشامى الذى جاوز الثامنة والسبعين وهو رئيس جمعية محبى الفنان محمد فوزى.. بدأ معجبا صغيرا ووصل افتتانه بمحمد فوزى أن أطلق اسمه على أول مولود له عام 1956، وكانت المصادفة أن نشر هذا الخبر فى إحدى الصحف وحين علم الفنان محمد فوزى بهذه القصة طلب لقاء صلاح الشامى وبدأت علاقة دامت عشر سنوات حتى وفاة المطرب الراحل، كان ضمنها أن ساهم الفنان فى نفقة التحاق المعجب الشاب بمعهد الموسيقى.
اليوم بعد كل هذه السنوات الطويلة لا يخفى الشامى نبرة الزهو أثناء حديثه ويذكر أن لولاه لما كانت جمعية محمد فوزى قد أنشئت أو استمرت إلى الآن، يروى: «كنت أعزف الكمان وأقود فرقة موسيقية خاصة، وفى تلك الفترة بعد وفاة الفنان محمد فوزى استضفت فى مكتبى بعض محبيه لنستمع معا إلى روائع أعماله محاولا الحفاظ على تراثه الفنى، لكن الأمر تطور فى العالم 1980 وأنشأنا الجمعية».
كيف تحول المعجب المفتون بأحد أساتذة الموسيقى إلى حارس على ذكراه؟ كانت الجمعية هى ما وفرت له هذا.. ففى كل عام كأغلب الجمعيات يبدأ الطقس التقليدى فى زيارة مقبرة الفنان محمد فوزى فى حضرة المعجبين الذى يتصدرهم رئيس الجمعية وبعض أفراد العائلة وكبار المعجبين، لكن السيد صلاح الشامى يؤكد أن الأمر تخطى احتفاليات الذكرى السنوية: «تقام الندوات واللقاءات الدورية والتكريمات بعيدا عن موعد الذكرى، والأهم هو التواجد فى التليفزيون والراديو ومتابعة ومدى الاهتمام بعرض أفلام الفنان الراحل».
يحفظ صلاح الشامى عدد الأفلام التى عرضت فى التليفزيون وعدد السهرات التليفزيونية فى أثناء إحياء ذكرى الفنان محمد فوزى الأخيرة ويرى أن لتواجده مع الجمعية دورا فى الاهتمام بهذه الذكرى. هذه النبرة فى حديثه تخفى وراءها تأثرا بعامل آخر أوضحه باقتضاب وهو أن الجمعية بحكم سياق عملها تتعرض لمتابعة من الجهات المختصة لتقييم أدائها، لذا لا بد أن تنال رضا المراقبين.

مواسم الاحتفال
هذا التواجد الإعلامى على الرغم من أنه يبدو موسميا فإنه دفع البعض إلى محاولة اختطاف ذكرى الفنانين من باب حب الظهور، حدث هذا مع الفنان فريد الأطرش قبل سنوات حين ظهر من ادعى أنه رئيس جمعية فريد الأطرش وبدأ فى التواجد الإعلامى ودخل فى نزاع مع الشخص الذى يقدم نفسه حاليا كرئيس للجمعية أمام الإعلام.
المؤرخ الفنى محمد قابيل ــ مؤلف موسوعة الغناء فى مصر ــ يرى ظاهرة المدافعين عن ذكرى الفنانين بعين أخرى، ويقول: «ليس كل من ظهر فى ذكرى فنان قديم هو بالفعل صادق فى محبته أو لديه معلومات تؤهله للتواجد، فعلى سبيل المثال فى حالة الشخص الذى ادعى أنه رئيس جمعية فريد الأطرش فقد جمع أموالا تحت هذا الغطاء، ولا يمكن أن ننكر أن هناك من استفاد بشكل أو بآخر من ميزة التواجد الإعلامى بصفته المعجب الأول أو المتحدث الرسمى».
يرى قابيل أن المشكلة الحقيقية هى أن معجبى الفنانين الكبار والذين عاصروهم فى تناقص مستمر، والباقى انسحب وأصبح صوته ضعيفا أمام إلحاح الإعلام على الأغانى الجديدة، ويضيف: «الحالة العامة وسرعة إيقاع الزمن وتبدل المزاج سريعا وتردى الحالة الاقتصادية لم تعد تسمح لكثيرين بهذا الترف الروحى فى الدفاع عن أهل الطرب حتى من المعجبين القدامى الذين أفنوا حماسهم فى حفلات فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وغيرهم».
لهذه الأسباب تكون الفرصة أكبر أمام رؤساء جمعيات الفنانين ومنسقى الندوات وبعض من أحاطوا الفنانين الراحلين، ولا يخلو الأمر أحيانا من بعض المشكلات حين تنفلت السيطرة وتتسبب حالة التنافس على التواجد الإعلامى فى ضيق أسرة الفنان الراحل نفسه.
على شبانة ــ ابن عم العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ــ يقول: «هناك أشخاص ينتظرون أى مناسبة للعندليب حتى يقوموا بتلميع أنفسهم إعلاميا على الرغم من أنهم ليست لهم علاقة به من قريب أو بعيد، والبعض يقوم بفبركة الحقائق من وحى الخيال بشكل مسىء».
للفنان عبدالحليم حافظ، أيضا، جمعية تضم محبى العندليب فى مدينة الزقازيق مسقط رأسه، لكنها تنشط بشكل مكثف فى ذكراه حيث يجتمع المحبون حول قبره. وهو نفس الطقس الذى يجريه سنويا محمد زكى رئيس جمعية فريد الأطرش فى السادس والعشرين من ديسمبر مع محبى فريد الأطرش، إلى جانب ترتيباته الشخصية للظهور فى مقابلات تلفزيونية وإذاعية لأن ذلك حسب وجهة نظره خدمة لذكرى مطربه المحبوب. لكن هل هناك من بعده من سيؤدى الدور مع مجىء أجيال لم تعش عصر هؤلاء الفنانين؟ يقول محمد زكى: «هناك أجيال جديدة قابلتهم يحبون هؤلاء المطربين الكبار، لكن أشك أن يصلوا لمرحلة الدفاع عن ذكراهم وحفظ سيرتهم مثلى.. فأغلب الناس لايزالون يستنكرون الاهتمام الزائد الذى أبديه وفاء لفريد الأطرش».

PDF