Wednesday, May 27, 2009

ملامح القاهرة الصعيدية في عزبة عبدالنعيم

نحو ستين ألف نسمة هم سكان عزبة الصعايدة بإمبابة، تمتزج ملامحهم السمراء ونمط حياتهم بعادات الأجداد وذكرياتهم، خاصة محمد عبدالنعيم مؤسس الحى.
الاربعاء 27 مايو 2009
عبد الرحمن مصطفى

لم يكن عبدالنعيم محمدين الذى هاجر فى الحقبة الخديوية إلى القاهرة يتصور فى هذا الزمن البعيد أنه بصدد صنع روابط تاريخية بين جزيرة الزمالك ومنطقة إمبابة.
فحين وفد عبد النعيم إلى القاهرة قادما من قنا، كانت جغرافيا المدينة لم تستقر بعد على وضعها الحالى، فالزمالك فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر لم تكن سوى جزيرة مهجورة مليئة بالأحراش والثعالب والذئاب، حتى إنها اتخذت تسميتها من كلمة زملك التركية، وهى العشش التى يستخدمها الجند على ضفاف النيل.
وبنظرة فاحصة منه على أرض الزمالك أدرك عبد النعيم أن لديه كنزا لا يعوض إذا ما قام باستغلال هذه الأراضى لحسابه، وهو ما تحقق بعد أن بدأ فى شراء الأراضى بثمن بخس لم يزد سعره على القرشين ونصف القرش للمتر الواحد.
واتسع نفوذه فى هذه الناحية بعد أن استدعى أقاربه وبنى جلدته من الجنوب كى يشاركوه تعمير المكان وأصبحوا بالمئات، وولوه عمدة عليهم. ومع تزايد الاهتمام بالزمالك وانتقال الأمراء والوجهاء إليها لوجود قصر الخديو إسماعيل، جاء القرار بتوطين هؤلاء المهاجرين فى موضع آخر، حيث عزبة الصعايدة الحالية التى عرفت سابقا باسم عزبة عبدالنعيم.
أما اليوم فلم يعد يجمع بين حى الزمالك وعزبة الصعايدة سوى ذكرى عبدالنعيم الذى هاجر إلى القاهرة حاملا معه طموحاته وهويته الصعيدية التى نقلها مع أهله وعشيرته لتصبح عنوان منطقة بالكامل فى إمبابة، وذكرى سابقة فى جزيرة الزمالك.
«المنطقة اسم على مسمى، أغلب السكان حتى الآن أصولهم من الصعيد» تلك كانت الجملة المفيدة والمختصرة التى وصف بها عبدالفتاح العامل فى مقهى وادى الملوك بحى عزبة الصعايدة. قد لا يعلم عبدالفتاح عدد سكان أبناء منطقته الذين بلغوا ــ حسب تقديرات الجهاز المركزى للإحصاء ــ نحو 60 ألف مواطن، لكنه لا يزال يحتفظ فى ذاكرته بقصة هجرة سكان العزبة الأوائل من الزمالك إلى الضفة الأخرى فى إمبابة.

وعلى كراسى المقهى لديه وفى المقاهى المجاورة يجلس المهاجرون حديثا من الصعيد إلى جوار أحفاد أصحاب الهجرة الأولى، وتمتزج الملامح الصعيدية مع النوبية التى جاءت فى هجرات أخرى.
حتى اليوم، لا تزال عزبة الصعايدة على وفائها لعبدالنعيم محمدين الذى يخترق العزبة شارع باسمه، وشارع آخر باسم نجله عسران. الشوارع ضيقة والبيوت القديمة لايزال بعضها يحمل الطابع الريفى الذى اتخذه المهاجرون الأوائل. تزحف عربات التوك توك الصاخبة أمام المقاهى التى لا تزال تستضيف أصحاب الملامح الصعيدية السمراء وتجمعاتهم، هناك.. كان من اليسير البحث عن أحفاد عبد النعيم، الجميع لا يزالون يتذكرون أن بعض سكان المنطقة تربطهم قرابة بعبدالنعيم وبمحافظة قنا.
من على أحد المقاهى المجاورة لجمعية أبناء عزبة عبدالنعيم دلنى أحد أصحاب هذه القرابة البعيدة على المنزل الذى وصفه ببيت العمدة. هنا يسكن عدد من أفراد العائلة فى منزل عائلى تقليدى، حيث يجتمعون فى جلستهم العائلية الأسبوعية.
كان فى الاستقبال المحاسب «حسين متولى خطاب عبدالنعيم محمدين»، هكذا ذكر اسمه الخماسى فى البداية موضحا صلته بعبدالنعيم مؤسس العزبة وكيف تأسست على العصبية والقرابة: «أنجب عبدالنعيم محمدين ولدين، أحدهما عسران الذى تولى عمودية الزمالك، أما أخوه الأصغر فكان جدى خطاب عمدة هذه الناحية من إمبابة، وتكونت المنطقة فى بداية القرن الماضى من أولاد عبدالنعيم وأقاربه وأهله القادمين من قنا، وحتى اليوم لا تزال الشوارع تحمل اسمىّ عبدالنعيم وعسران عبدالنعيم اللذين يحددان الأصل القديم للمنطقة، هذا إلى جانب شوارع فرعية تشير إلى أسماء عائلات أخرى مثل عائلة الصغير وغيرهم من السكان القدامى».
كان حديث أفراد العائلة عن الماضى موصولا بالحاضر، يتذكر حسين خطاب هذه المنطقة قديما حين كانت أكثر تعبيرا عن روح القرابة والتكاتف بين سكانها من أبناء الصعيد: «قديما كان الغريب يعرف بمجرد مروره من الشارع، والعائلات التى تقطن المنطقة كانت معروفة بالاسم، أما الآن فاتسعت المساحة وتكدست المبانى وأصبح كل من هب ودب يتجول فى الحى».

رياح الجنوب

التطور الذى يصفه حسين خطاب فى عزبة الصعايدة على مدى العقود الماضية هو نفسه الذى أصاب العديد من المناطق القاهرية، وهو الذى أصاب منطقة إمبابة الحاضنة للعزبة بأكملها حين انتقلت من الطابع الريفى الهادئ فى منتصف القرن الماضى إلى الطابع الحضرى الصاخب نتيجة ظهور المصانع والهجرة المتزايدة من أحياء القاهرة القديمة ثم من الصعيد على وجه الخصوص، حيث يخترق قطار الصعيد هذه البقعة السكنية منذ عقود طويلة.
تلك الأجواء كانت سببا فى إلهام أحد الروائيين وهو حسنى سيد لبيب ــ أحد أبناء حى إمبابة ــ لكتابة روايته «نفق المنيرة» التى حاول فيها تسجيل أحوال إمبابة فى فترة الستينيات من خلال شخصيات مستمدة من الواقع وأماكن أسهب فى وصفها، كان من ضمنها «عزبة الصعايدة»، وكما فعل إبراهيم أصلان فى الكيت كات وشارع فضل الله عثمان، وغيرهما.
أما اليوم ورغم تزاحم الحى بعربات التوك توك ومناوراتهم الجريئة فإن الروح الصعيدية لا تزال تصبغ بعض تفاصيل الحى.
ربما تكون قد مضت عشرات السنوات على زمن وجود الأجداد فى الزمالك وهجرتهم إلى القاهرة إلا أن العلاقة بالجنوب والتمسك بعاداتهلا تزالا راسختين لدى الأحفاد.
سلوى كمال خطاب ــ إحدى حفيدات عبدالنعيم محمدين ــ عاشت فترة طويلة من حياتها فى الزمالك مع زوجها محيى الدين عسران الذى ينتسب معها إلى الجد الكبير عبدالنعيم. تقلدت منصب أمينة المرأة فى شياخة أبو الفدا، حيث ذكرى وبقايا أملاك جدها الكبير، فى الوقت الذى تقلد فيه زوجها منصب رئيس المجلس الشعبى لحى غرب القاهرة.
وهى ترى أن دورها هى وأبناء العائلة فى العمل العام هو ميراث آخر عن أجدادهم الذين استوطنوا الزمالك وإمبابة منذ عقود. «ارتباطنا بالعائلة والنسب، واحترام الكبير، أصبحا ميراثا متداولا بين أفراد عائلتنا، وبين بعض أفراد الحى الذين مازالوا متمسكين بهذه القيم، كذلك فالأعباء التى تلقى على كاهل من ينتمى إلى عائلة من مجتمع صعيدى كانت بيدها مقاليد العمودية هى واجب يسعى الكثيرون لأدائه».
يوضح حسين خطاب هذه النقطة «أغلبنا لم نزر أرض الأجداد فى قنا إلا مرات معدودات، إلا أن عادات الصعيد مازالت تحركنا وتدير علاقاتنا، فوقت حدوث خلاف لابد أن تسمع كلمة الكبير، وفى المنطقة هنا جمعية ودار مناسبات هى أقرب للمندرة أنشئت للمقيمين فى عزبة عبدالنعيم منذ فترة، تضم لقاءاتنا ومناسباتنا، وهى أداة لدعم من يحتاج، ورغم مرور عشرات السنوات على زمن عبدالنعيم لا نزال على صلة بقنا والوافدين من أقاربنا إلى الحى».
أمام «جمعية أبناء المقيمين فى عزبة عبدالنعيم» أوضحت سلوى كمال خطاب بإخلاص الحدود الأصلية لعزبة عبدالنعيم القديمة التى يحدها شارعا عبدالنعيم وعسران، مشيرة إلى أن الجمعية كانت فى يوم من الأيام مقر الاتحاد الاشتراكى أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. أما اليوم فقد توسعت الحدود وتضخم الحى، وهو مازال متمسكا بتسمية عزبة الصعايدة، وما زال يستقبل الوافدين من الجنوب إلى أقاربهم كالعديد من المناطق القاهرية الأخرى.

بداية العشوائية

قد لا تختلف كثيرا مظاهر بعض المنازل البسيطة عن حالها عام 1924، وهو العام الذى تؤرخ به بعض الدراسات للظهور الرسمى لعزبة الصعايدة خاصة فى الدراسات الحديثة الخاصة بالعشوائيات، حيث يعتبرها البعض إحدى البدايات الأولى لظاهرة العشوائيات الحديثة. فمع توافد المهاجرين إلى حى بعينه بدأ العمران بصورة عفوية لا تقيدها خرائط أو خطط.
لكلمة «عشوائيات» وقع سيئ على أذان أفراد العائلة لما للكلمة من ارتباط بالفقر وانعدام النظام، وهو ما يخالف الواقع فى وجود عائلات ميسورة الحال استمرت فى السكن هنا لارتباطها بالمكان.
يستنكر حسين خطاب «المنطقة منذ فترة وهى خاضعة لسلطة الدولة، ولها شياخة تحمل اسم عزبة عبدالنعيم، لكن ما حدث هو أن اتساع البناء والهجرة إليها جعلاها أكثر تكدسا مثل المناطق المجاورة أيضا».
وكحال المنازل الأولى التى أقيمت فى الماضى تتخذ العزبة الملمح الريفى فى العمران، تتخلله بعض العمارات التقليدية الحديثة. يتشابه الحال مع العديد من الأماكن الأخرى القاهرية التى تضم تجمعات من مهاجرى الجنوب، ورغم تحول بعضهم إلى أرقام داخل بيانات الهجرة الداخلية ومشروعات القاهرة المستقبلية التى تتعامل مع العاصمة كمشكلة تبحث عن حلول فإن هذا التلاصق فى السكن أوجد أيضا حالة من الترابط ترسخها العلاقات المتشابكة والقرابة والتاريخ المشترك للحى.
«من الصعب أن أترك هذا الحى الآن، فرغم إمكانية الانتقال إلى سكن آخر فإننى ما زلت مرتبطا بالمكان وبالعائلة وشكل العلاقات هنا الذى لن أجده فى حى آخر». هذه وجهة نظر محمد حسين خطاب المتخرج حديثا فى كلية التجارة، موضحا أن الجيل الجديد لا يزال لديه هذا الالتزام نحو العائلة وفكرة العزوة التى لن يشعر بها فى أى مكان آخر. ويلتقط منه عمر أحد شباب العائلة طرف الحديث ليوضح بمثال عملى شكل العلاقات داخل المنطقة، أشار ناحية شارع عسران عبد النعيم قائلا: «قريبا كان هنا فى هذا المكان صوان يغلق الشارع بعد حالة وفاة، يتوافد المعزون حتى يملؤوا هذه المنطقة للوقوف بجانب أهل الميت وتعزيتهم.. ولا شك أن حضور اسم عائلتك وتاريخك فى الحى يسهم فى تكاتف الناس حولك».
إلى جانب هذه النظرة الواقعية التى يصف بها شباب العائلة علاقتهم بالمكان وتاريخ العائلة ــ يحتفظ الكبار بذكريات أخرى من الماضى كصورة الجد خطاب وحكايات عن لقائه بجمال عبدالناصر وقت زيارته إلى إمبابة، وعدد من مجلة الاثنين القاهرية بتاريخ يوليو من العام 1952 أى قبل الثورة بأيام تناول سيرة الجد عبدالنعيم وقصته مع حى الزمالك. أيضا مازالت الحفيدة سلوى تحتفظ برخصة قيادة جدها التى لم يرها شباب العائلة حتى اليوم، كان مكتوبا فى خانة المهنة «من ذوى الأملاك» كتعبير عن زمن لن يتكرر وإرث عائلى محفوظ فى الذاكرة لمكان له تاريخ من نوع خاص، يصور الذاكرة الصعيدية لأماكن قاهرية.