Monday, November 28, 2005

مصر في خطر

كانت كلمة "بلطجي" في العامية المصرية تُطلق في الأصل على تلك الفئة التي احترفت استخدام القوة إما لحسابها، أو لحساب غيرها من أجل ابتزاز المواطنين أو التعدي على حقوقهم، وسرعان ما أضحت البلطجة سلوكا وأسلوب حياة يعتنقه البعض.. نراه أحيانا على نطاق ضيق في نماذج بسيطة كصاحب تجارة استحوذ على رصيف المارة لحساب تجارته، أو حتى على نطاق واسع كصاحب نفوذ حقق ثروته بفرض سلطانه على الآخرين لنهب أموال الشعب، وبين هذين النطاقين مساحات واسعة من الممارسات البلطجية العنيفة في الشارع أو المدرسة أو العمل..إلخ. وكان من الطبيعي أن تتأثر العملية السياسية في مصر بتلك الممارسات المجتمعية، فجاءت انتخابات برلمان 2005 خير دليل على ظهور أهل البلطجة وعلو نجمهم بعد أن سُـلِّطت عليهم أضواء وكاميرات الفضائيات وراقبتهم عيون الشعب المصري بقلق بعد أن رأوا تدخلاتهم للتأثير على العملية الانتخابية لصالح أسيادهم، وهو ما اعترف به عدد ليس بالقليل من القضاة المشرفين على سير العملية الانتخابية في مصر... ولعل الخطورة هنا لا تكمن فقط في ضعف نزاهة العملية الانتخابية نتيجة التدخلات بقدر ما تكمن الخطورة في هذا المد الغوغائي وعلو شأنه أمام أعين المجتمع المصري، فبعد أن كان هؤلاء الغوغاء يمارسون تسلطهم على الشعب المصري من خلال أعمالهم البسيطة أو المتوارية التي تعتمد على النصب والاحتيال أضحوا الآن إحدى القوى المشاركة في العملية الانتخابية !

لقد تعرض العديد من المراقبين للعملية الانتخابية إلى الحديث عن موقف الأمن الذي كان سلبيا في العديد من المواقف التي صعد فيها المد الغوغائي العنيف، وهنا تعلّل رجال الأمن كما وضح من تصريحات بعض قياداتهم بعدم رغبتهم أن يكونوا نقطة ضعف إضافية في مسيرة الانتخابات فيلجأوا للاعتقالات أو القمع العنيف لتلك الممارسات الغوغائية التي صاحبت الانتخابات، غير أن حجم الاعتقالات في جماعة كجماعة الإخوان المسلمين مقارنة بحجم الاعتقالات بين من مارسوا البلطجة من أطراف أخرى يوضح أن القلق الرسمي كان من جماعة الإخوان المسلمين، وذلك برغم ما دِّون في تقارير صادرة عن أن بعض مراقبي الانتخابات مورست ضدهم بلطجة من أنصار بعض المرشحين المستقلين أو حتى من بين بعض أتباع مرشحي الحزب الوطني.. بل إن بعض التقارير الصحفية تحدثت عن دور أمني في عرقلة مسيرة الانتخابات ومنع الناخبين من الوصول إلى لجانهم. وأثناء تلك الأحداث كانت الكثير من الأحزاب السياسية قابعة في مقارها محاصرة بالعديد من القيود السياسية والمجتمعية التي تعوق أنشطتها أو التعاون معها، على عكس ما جرى في انتخابات رئاسة الجمهورية لعام 2005 و ما حدث فيها من علو شأن رؤساء الأحزاب كمرشحين رئاسيين، فاليوم خطفت جماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانونا الأضواء، وأضحت أكثر شراسة إعلامية في الدعاية لنفسها، وفي كل تلك الأجواء ظهرت قوة جديدة أضحت أكثر نجومية، تعمل لحساب الجميع، وهي قوة البلطجة.. فَعَـلا شأن رعاع الشارع المصري حتى أنهم لم يخفوا أسلحتهم البيضاء من أمام الكاميرات، بل حاولوا إرهاب الجماهير وكأنهم يعلنوا عن وجود قوة جديدة لها تأثيرها على العملية الانتخابية ومسيرة السياسة في البلاد.عندما يثار الحديث عن الانتخابات البرلمانية في مصر نجد أن أغلب الحوار ينصب على جماعة الإخوان المسلمين ومرشحيها وما حققوه من مفاجآت، مثلما كان الحديث من قبل - وقت انتخابات الرئاسة المصرية 2005- ينصب على المرشح الرئاسي أيمن نور الذي نال المرتبة الثانية بعد الرئيس مبارك في حيازة أصوات الناخبين. ولعل جماعة الإخوان المسملين الآن هي نجم الموسم، غير أن خطرها الذي يحذر منه الكثيرون لن يكون أبدا في قوة خطر هؤلاء الرعاع من (البلطجية) الذين أصبحوا إحدى القوى السياسية المؤثرة على العملية الانتخابية، إن الخطر الحقيقي يكمن عند هؤلاء من عديمي الضمير ممن يبحثون عن منفعة وقتية من وراء هذا الموسم الانتخابي، فاليوم يلعبون لصالح غيرهم، غير أننا لا نعلم إذا ما كانوا سيلعبون لعبتهم غدا لحسابهم الخاص أم لا..!
نرجو من الحكومة المصرية ألا تدع مجالا لأهل العنف والبلطجة كي يَـنفُذوا منه للمشاركة في إدارة إحدى العمليات السياسية المهمة بالدولة بأسلوبهم الغوغائي البغيض، فمراهنة الدولة على قدرتها على التحكم في الرعاع و على أنشطتهم الفوضوية غير مأمونة العواقب، فكثير من الحركات الخارجة بدأت من أمثال هؤلاء ممن ظن حكامهم أن أمرهم بأيديهم، كما أن سقوط عشرات المصريين جرحي إلى جانب قتل بضع أشخاص لهو أمر غير مأمون العواقب ويزيد من الفجوة بين المواطن وبين المشاركة في الأحداث السياسية. إن مصر في حاجة إلى قمع سلوكيات البلطجة تماما من البلاد حتى ترتقي إلى الأفضل، فعليها أن ترسخ فكر جديد يدير حركة مؤسسات المجتمع.. فالحذر الحذر من السماح للغوغاء وأهل العنف بإدارة العمل السياسي في مصر والتحكم فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــ

Tuesday, November 8, 2005

آخر الفتن السكندرية

من بين العديد من الأراضي التي زحف عليها الاسكندر الأكبر، كانت بقعة وحيدة على أرض مصر هي التي اختارها كي تكون مدينته الخالدة، فكانت الإسكندرية.. وهيئ الله لتلك المدينة أن تولد كعاصمة لدولة البطالمة.. ورثة الاسكندر، وأن تأخذ من الامتيازات ما يوفر لها استقلالها الإداري والقضائي الذي انعكس فيما بعد على شخصية المجتمع السكندري نفسه، فأصبح لديه شعورا خاصا بالتميز على بقية المدن المصرية، وزاد من هذا الإحساس ذلك التنوع الثقافي والسكاني الذي شهدته تلك المدينة التجارية التي تحولت في وقت قصير إلى واحدة من أهم مدن العالم القديم. كانت طبيعة المواطن السكندري.. منفتح، متقبل لثقافات الآخرين، يجمع ما بين أخلاقيات البحار والتاجر سويا فكان متعاونا مع الغرباء حريصا على مصالح الآخرين، غير أن بعض الفترات قد تبدل فيها الحال، فوجدنا صراعات بين الأديان أو الثقافات نتيجة تدخلات من الحكام أو كنتيجة لتأثيرات دولية، أو حتى بسبب جماعات المصالح المستفيدة من مثل تلك الأجواء.

كان من أسباب الفتن السكندرية تدخلات الحكام ضد أو مع إحدى فئات المجتمع، وهو ما عبَّر - وقتها - عن ضعف سياسات الدولة وعدم قدرتها على الإدارة السليمة، وهو ما حدث في النصف الثاني من عهد حكم البطالمة عندما وجدنا - على سبيل المثال - محاولات من ملوك البطالمة لإكراه اليهود على اعتناق ديانة البطالمة، في الوقت الذي جاء فيه هذا الأمر بعد هجرات يهودية إلى الإسكندرية، فما كان من إغريق المدينة إلا وأن بدأوا هم أيضا في حملاتهم الدعائية ضد اليهود وضد معتقداتهم، وتراشق الفريقان بالخطب والرسائل... ونجد نفس السياسات (الحكومية) الخاطئة تتكرر من قِبَـل بعض الحكام المسلمين عندما شهدت العصور الإسلامية في مصر تأرجحا في التعامل مع غير المسلمين ما بين التضييق عليهم أو محاباتهم بصورة فجة، فأحيانا ما كنا نجد مسئولا في الدولة من غير المسلمين وقد اشترك في مخالفات في حق المواطنين، فتكون الفرصة الوحيدة للمواطنين كي ينالوا منه ومن أبناء ديانته عندما تتغير سياسة الحكومة ضد غير المسلمين و تبدأ في التضييق عليهم، و قد شهدت الإسكندرية فتنة من هذا النوع وقت حكم المماليك في عهد الناصر محمد بن قلاوون وخلفائه، عندما اضطربت المدينة وأُحرقت دور العبادة وجرت العديد من الصدامات، فكان هذا التضييق على غير المسلمين من قِبَـل الحكومة فرصة وإشارة لفئات الشعب المقهور كي ينال من عزيز قد ذل، وموظف للدولة – من أهل الذمة- يعيش فترة ضعف وانتكاسة لغضب الحكومة عليه..!

وكان من ضمن أسباب الفتن السكندرية تدخلات خارجية وتبدل في السياسات الدولية... فعلى سبيل المثال، عندما أعلن الإمبراطور جوليان المرتد (361-363 مـ) كفره بالمسيحية، وتشجيعه للفلسفة والممارسات الوثنية، كانت بداية الصراع الديني في المدينة، وعندما أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (379- 395 مـ) المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية كانت تلك فرصة لرجال المسيحية أن يهدموا معبد السرابيوم معقل الفكر الوثني والفلسفي، في محاولة منهم لإحكام سيطرة المسيحية - وحدها - على المدينة

وما الأسباب الخارجية إلا غطاء لأسباب داخلية.. كظهور إحدى القوى الداخلية التي تستغل الدين في السيطرة على الجماهير وتكوين كيان خاص بها... فعلى سبيل المثال قد تم التنكيل ببعض الفلاسفة ممن لم يدينوا بالمسيحية في مدينة الإسكندرية على يد رجال الدين المسيحي من أجل قهر الوجود الفكري غير المسيحي بالمدينة، ولعل أشهر تلك الحوادث ما جرى للفيلسوفة "هيباشيا" عام 415 مـ التي تم الاعتداء عليها والتمثيل بها تحت أعين بعض رجال الكنيسة تنكيلا بالفلسفة وأهلها، وإرهابا لهم كي يتركوا المدينة، وتقوية للكنيسة ورجالها في المجتمع السكندري والمصري، وتعبيرا عن أن هناك من ينافس الحكومات الداخلية (= الولاة الرومان) في المجتمع.

قد تكون هناك أسباب خارجية تقوي البعض في الداخل وتدفع به كي يجرب الثورة، كتلك الحادثة التي جرت عام 608 هـ عندما فكّر مجموعة من الحمقى قدروا بثلاثة آلاف من التجار الفرنج استغلال المد الصليبي نحو المشرق كي يستولوا على الإسكندرية، وفشلوا فشلا ذريعا.. وهناك العديد من الحوادث التي انصاعت فيها بعض القوى الداخلية لقوى خارجية.. غير أن الفتن الحقيقية هي تلك التي تتكون داخليا بين سكان المدينة الواحدة، دون قوات خارجية تساندها.

مؤخرا... وقعت آخر الفتن السكندرية عندما تجمهر المسلمون حول إحدى كنائس المدينة، وسادت هناك أجواء من التعصب أفضت إلى إصابات وخسائر مادية، وانتشرت روح البغضاء بين أبناء الطائفتين على إثر انتشار تسجيل لإحدى المسرحيات اعتبرها الكثيرون مسيئة للإسلام، والتي تم تصويرها داخل تلك الكنيسة، فعادت أجواء الفتن السكندرية إلى الظهور مرة أخرى. وهنا.. نجد أن أغلب أسباب الفتن السكندرية مازالت تتكرر، فالأجواء الدولية لها تأثيرها في جعل بعض المسلمين في حالة تحفز تجاه كل حديث عن الإسلام، ولكن.. تظل الأسباب الداخلية هي الأقوى دائما في إحداث الفتن.. فعلى ما يبدو أن هناك أيضا من يسعى لفرض نفوذه باسم الدين من داخل الكنيسة ومن بين المسلمين.. فيستغل الناس ويستخدمهم في مثل تلك الأحداث، مثلما كان الأمر قديما، أما عن تدخلات أو سياسات حكومية داخلية نستطيع أن نقدمها كسبب وراء هذا الحدث، فلا نستطيع أن نجد أثرا حكوميا واضحا وراء تلك الفتنة السكندرية الأخيرة، غير أننا نلاحظ أن هناك اعتقاد لدى بعض المسلمين أن الحكومة تعرقل سير أي قضية يكون أحد طرفيها من المسيحيين خصوصا في المسائل ذات الطابع الديني أو السياسي، ويكون ذلك لصالح الجانب المسيحي درءا للمشاكل.. ونحن لا نعلم أصل هذا الاعتقاد... غير أن كل تلك الأمور تجعلنا نرى أن أسباب الفتن السكندرية طوال تلك القرون كانت متقاربة، فعلى المصريين - على الصعيدين الشعبي والحكومي - الانتباه لمثل تلك الأسباب.
نتمنى للمجتمع السكندري أن يعود إلى نشأته الأولى حرا طليقا، قادرا على استيعاب الكل.. بكل ما فيه من اختلافات، فكل ما نخشاه أن تكون الهجرات الداخلية إلى الإسكندرية قد أفقدتها روحها الأصيلة، وطمست شخصيتها، فأصبحت اليوم في حاجة إلى بعث من جديد، لكن.. تبقى تلك المهمة الآن هي مهمة السكندريين وحدهم فقط.
ــــــــــــــــ